مطار نيرودا: تشريح جثة الأدب!

شادي لويس

الجمعة 2018/12/07
"في أحد الصباحات، وقد قررت أن أضاجعها. قبضت على معصمها بقوة، وحدقت في عينيها. ولم يكن هناك لغة يمكنني التحدث بها معها. ودون ابتسام، تركت نفسها تقاد، وسريعا كانت عارية في سريري. كان خصرها النحيل جدا، الضامر جدا، أردافها المكتنزة جدا، الممتلئة جدا، كؤوس نهديها الممتلئة، جعلتها تبدو وكأنها واحدة من تماثيل جنوب الهند ذات الألف عام. لقد كان لقاءً بين رجل بتمثاله. طوال الوقت كانت عيناها مفتوحتين على مصراعيهما، بلا أي استجابة على الإطلاق. كانت محقة في احتقاري، ولم تتكرر التجربة مرة أخرى".

(مذكرات بابلو نيرودا: أعترف بأنني قد عشت)

في العام 2013، أمرت محكمة في سانتياغو باستخراج جثمان بابلو نيرودا من قبره، وإخضاعه للتشريح الجنائي، بعد أربعة عقود كاملة من وفاته. موت الشاعر التشيلي، الذي وصفه غابريل ماركيز ذات مرة بإنه "أعظم شاعر في القرن العشرين في كل اللغات"، لطالما كان محلاً للشكوك والتكهنات. أسبوع واحد فصل بين الانقلاب العسكري ضد حكومة الليندي- الذي كان يعمل نيرودا مستشاراً له- وبين زيارة الشاعر الشيوعي الأخيرة للمستشفى، والتي توفى بعدها بأيام. احتاج الأمر لعامين من التشريح الجنائي والتحقيقات، حتى أصدرت المحكمة في عام 2015، قراراً بإعادة دفن الجثمان، وأقرت السلطات التشيلية لأول مرة باحتمالية تورط نظام الجنرال بينوشيه في حقن نيرودا بمادة قاتلة. ومؤخراً، وفي أكتوبر من العام 2017، وبعد دورة أخرى من الفحوصات التشريحية للجثمان بواسطة فريق دولي من الخبراء هذه المرة، تم الجزم بإن الوفاة لم تكن نتيجة سرطان البروستات.

لكن جثمان نيرودا لم يكن الشيء الوحيد الذي وضع تحت مشرط التشريح، ففي الأسابيع الماضية، ومنذ موافقة البرلمان التشيلي، في أكتوبر الماضي على تغيير اسم مطار العاصمة، واطلاق اسم الشاعر الحائز جائزة نوبل للآداب عليه، انطلقت سلسلة من المظاهرات ضد القرار. فعلى خلفية اتهام قديم لنيرودا بالاغتصاب، نسقت الاحتجاجات مجموعات نسوية، وحركة "أنا أيضا" التشيلية المناهضة للعنف ضد المرأة. وسرعان ما أعيد فتح أدلة الاتهام، مذكرات الشاعر نفسه، المعنونة "اعترف بأنني قد عشت"، والتي داوم على تسجيلها حتى أيامه الأخيرة، وعلى فراش موته.

فالواقعة التي يسردها نيرودا، في فقرة لا تتجاوز نصف صفحة، تصف بالتأكيد ما يمكن اعتباره اغتصاباً حدث أثناء فترة عمله كسفير شرفي لبلاده في كولمبو في نهاية العشرينات. فتلك المرأة السيلانية التي كانت تأتي لمنزله يومياً، لتفريغ السطل الموضوع تحت فتحة المرحاض، لتجميع الغائط، كانت تقوم بمهمتها المتواضعة في وقار ودون أن تلتفت إليه أو تعير وجوده أي اهتمام، كما يقول. وحين حاول الشاعر استمالتها بوضع الهدايا على طريق خروجها من المنزل، كانت تمر دون أن تنظر إليها. ومن الواضح أن نيرودا، بحسب نصه، قد اتخذ قراراً من طرف واحد لمضاجعة المرأة، التي وصفها بـ"الحيوان الوحشي"، في فقرة سابقة. وبالطبع فإن تشبيه المرأة بحيوان، يتصدى الرجل لصيده، أو ترويضه، ليست حكراً على نصوص نيرودا، بل صيغة رائجة أدبياً وتراث مخجل لأكثر اللغات. فـ"الحيوانية" غير المستأنسة كفيلة بتبرير ما سيأتي بعدها من إجبار وعنف. تخفي المذكرات الفاعل، وتجهله، مع أننا نعرفه، فالمرأة "تركت نفسها تُقاد"، فلمن؟ وفجأة "كانت عارية"، فمن خلع ملابسها؟ "في سريري" فكيف وصلت هناك؟... ويصمت نيرودا عن كل هذا.

وفي محاولة واعية أو غير واعية للإجابة عن تلك الأسئلة، يذهب مترجم المذكرات إلى العربية، الدكتور محمود صبح، لواحدة من "خيانات المترجم"، التي ارتكب منها الكثير في الكتاب وفي تلك الفقرة على الأخص. يضيف صبح إلى المشهد ثلاث عبارات، غير موجودة لا في النص الإسباني ولا في الترجمة الإنكليزية: "وعريتها دون أن تبدي حراكا، أملتها على السرير فمالت، أنمتها فنامت". ولا تبدو دوافع تلك الإضافة واضحة، لكن من المرجح أن المترجم واجه معضلة في التفريق بين المبادرة والقسر في ما حدث، ويبدو إنه مال للأولى، بغية إبراء الشاعر المحبوب من فرضية الاعتداء.

لكن ومع إن نيرودا، لم يبد ندماً، وهو يسرد مضاجعته لـ"التمثال" الأخرس، ويتلذذ بالوصف الشهواني لتضاريسه، فإنه يعرف قطعاً بإن ما فعله يستحق "الاحتقار". ويعرف أن المرأة التي أدعى أنها لم "تستجب"، كان رد فعلها في الحقيقة هو احتقاره، وكانت "محقة" في هذا، بحسب النص.

في مقدمة الفصل ذاته، يشرح نيرودا التركيبة الاجتماعية لسيلان، في وقت إقامته بها، ويضع المستعمرين البريطانيين على قمتها، ويأتي لاحقا البيض "البوير" المنفيين من جنوب أفريقيا، وفي المرتبة الثالثة، يقع السيلانوين من الهندوس والمسلمين. لكن وفي الأسفل من كل هذا، يقع "التاميل"، وهو يصفهم بالمهاجرين من جنوب الهند. لا تخبرنا المذكرات فقط بإن المرأة كانت تاميلية، بل وأنها تنتمي لطبقة "الباريا"، إحدى طوائف المنبوذين. ويضيف مترجم النسخة العربية، في لمحة مؤلمة، حاشية تصف "الباريا" بأنهم طبقة "محرومة من الحقوق الإنسانية والمدنية".

لا يبدو أن تشبيه نيرودا لضحيته بالحيوان، كان مجازيا تماما، بل إنه عاملها بالفعل كواحد، كما عاملها كل شخص آخر في مجتمعها. وكان هو موقناً بذلك الفارق الشاسع والمخيف في السلطة بينه وبين تلك المرأة، المحرومة من أي حق، والواقعة في قاع القاع من السلم الإنساني، وبأنها لم تكن لتقدر على الرفض أو المقاومة أو الشكوى.

لكن المذكرات، تصف المرأة الضحية، بتوقير استثنائي أيضاً، بإنها كالربة الهندية و"الإلهة اللامبالية". ويستشهد سلافوي جيجيك، في كتابه "الحياة في آخر الزمان" بتلك الإشارة، ليرسم واحدة من علاقته الذكية والمبالغ فيها كالعادة. فهو يقارن بين ما تفعله الليبرالية بالضحايا وبين "واقعة الاغتصاب الوقحة" التي يخفي نيرودا "تفاصيلها القذرة" بـ"إضفاء مسحة من الصوفية على صمت الضحايا بتحويله إلى ألوهية غير مبالية".

ربما سيتم تنفيذ قرار البرلمان، بالرغم من الاحتجاجات النسوية، وسيحمل مطار سانتياغو اسم الشاعر الكبير، والسيناتور السابق، وواحد من أهم مناضلي القارة اللاتينية ضد الديكتاتورية. وفي الأغلب فإن جثته لن يعبث بها مرة أخرى، بعد الجزم بوفاته غير الطبيعية. لكن العار المستحق الذي لحق باسم نيرودا ربما لن يمحوه أي شيء. أما الأدب، وجرائمه المسكوت عنها لوقت طويل، وبلاغة نصوصه المراوغة في تجميل القسوة، فيبدو أن جميعها، اليوم، قد وضعت على طاولة التشريح.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024