محمود رضا: اختراع الفولكلور لمصر الناصرية

شادي لويس

السبت 2020/07/18
كان ذلك في إحدى قاعات "كلية الدراسات الشرقية والأفريقية" في لندن، قبل سبع أو ثماني سنوات. وكانت قد انتهت فرقة لرقص الدبكة من تقديم عرضها، قبل أن يعلن مقدم الحفلة الخيرية فقرة من الفولكلور المصري. كان العرض أكثر تنوعاً من سابقه، وبدت الرقصات التي قدمتها فرقة صغيرة مكونة من طالبات مصريات وأجنبيات، مألوفة جداً. مجموعة من الإيقاعات الموسيقية تمثل أقاليم مصر المختلفة، تصحبها سلسلة من الحركات الجسدية القصيرة والمكررة ذات الإيماءات الإقليمية الممكن التعرف عليها بسهولة: خطوات السمسمية السريعة لمدن القنال، روتين أكثر ليونة مع استخدام مسرحي لحركة اليدين من إقليم بحري والإسكندرية، العصي والتحطيب للصعيد، أما الرقصات التي تركز على الخصر مع التلويح المتكرر بالملاية اللف فبدت تمثيلاً لـ"بنت البلد" أو لمصر عموماً. قبل نهاية العرض، سألني صديقي اليوناني الجالس بجانبي، إن كان هذا الرقص يبدو لي مصرياً، فأجبته بالإيجاب من دون كثير تفكير. وببعض علامات من عدم الرضا، عاد وسألني إن كان الناس في مصر يرقصون هكذا فعلاً، وكان عليّ الانتظار حتى نهاية الحفلة لأجيبه بالنفي. إذ لم يشبه البرنامج الفولكلوري أي شيء يرقصه المصريون في الواقع، سواء في بيوتهم واحتفالاتهم الخاصة أو في الموالد، الروتين شبه الرياضي للحركة انتزع عنصر الارتجال والفردية. لكن، مع هذا كله، كان يمكن التعرف على الرقصات بوصفها مصرية جداً، أو بطريقة أخرى كانت تتبع بإخلاص التقاليد التي وضعتها "فرقة رضا" ومؤسسها محمود رضا، لما يمكن وصفه بفولكلور الرقص المصري.

حين أعلن "الضباط الأحرار" بيانهم الأول، كان محمود رضا في العاصمة الفنلندية هلسنكي، ضمن الفريق المصري للجمباز الذي شارك في أولمبياد العام 1952 هناك، وكان رضا قد غادر القاهرة مع الوفد الأولمبي في منتصف شهر يونيو، وحين عاد في مطلع أغسطس وجد نفسه في بلد آخر، أو على الأقل بلد على وشك أن يتغير بشكل جذري. بعد ثلاثة أعوام من حرب السويس، وفي العام 1959، أسس رضا مع زوجته نديدة فهمي وأخيه علي وزوجة أخيه فريدة فهمي، فرقتهم للفنون الشعبية، التي تغير اسمها لاحقاً إلى "فرقة رضا"، ولم يكن هذا التوقيت مجرد صدفة.

كان عقد الخمسينات، مع تصاعد الحرب الباردة الثقافية، هو العصر الذهبي للرقص الفولكلوري حول العالم، كانت فرق دول الكتلة الشرقية تجوب عواصم البلاد الصديقة، والخبراء السوفيات يساعدون الدول المستقلة حديثاً على تأسيس فرقهم الوطنية ومهرجاناتهم الخاصة بالفنون الشعبية. الرقص الفولكلوري، كالموسيقى، تم تدشينه كتعبير نقي عن الأصالة، عن ايديولوجيا الطبقات الشعبية وأنثروبولوجيا جماليتها، وكذا عن روح الأمة تلك التي حُفظت عبر الأجيال في فنونها الطقسية.

يسجل يحيى حقي في كتابه "يا ليل يا عين"، الحيرة التي انتابت المؤسسة الثقافية في مصر بعد استقبالها فرقة للرقص الفولكلوري من الصين في العام 1955. فحقي كان مديراً لمصلحة الفنون حينها، وكان على وزارة الثقافة في المقابل إرسال فرقة مصرية للعرض في الصين، والسؤال الذي واجهه حينها: هل هناك رقص شعبي مصري؟ لكن السؤال الحقيقي لم يكن وجود رقص مصري من عدمه، بل إذا كان هذا الرقص يمكن اعتباره تمثيلاً للأمة المصرية؟ فارتباط الرقص البلدي بالغوازي، والدعارة بشكل كبير، لم يجعل منه ممارسة مقبولة اجتماعياً أو على الأقل لم تكن ممارسته مدعاة للفخر. كان الرقص دائماً في علاقة ملتبسة مع جمهوره، كونه مرغوباً كعرض، ومنبوذاً كمهنة في الوقت ذاته. العروض الراقصة لسامية جمال وكاريوكا، والتي صاحبت رحلات الملك الفاروق إلى أوروبا أو المناسبات الملكية التي استضافت وفوداً أجنبية في مصر، لم تعد مقبولة في عهد عبدالناصر. والإيحاءات الايكزوتيكية المغوية لا تناسب صورة "المرأة الجديدة" المتعلمة والعاملة والأخلاقية، حتى دور الراقصة-البطلة في السينما المصرية كان يتراجع أيضاً بمعدلات سريعة.

الصعوبة التي واجهتها فرقة رضا في البداية، كانت اجتذاب أعضاء لها من "خلفيات اجتماعية مقبولة". آل رضا وآل فهمي، انتميا للطبقة الوسطى العليا، الوالدان عملا في الجامعة المصرية (القاهرة الآن)، بخلفيات أكاديمية، ووالدة الأختين فهمي بريطانية، أما الأخوان رضا فملامحهما تبدو نصف أوروبية، إن لم تكن أوروبية جداً. جذبت تلك الخلفيات أعضاء للفرقة من خلفيات اجتماعية وتعليمية مرتفعة. محمود، المتأثر بالأفلام الاستعراضية الأميركية، والذي نال تدريباً غير نظامي في رقص الباليه، تبني أساليب بدت متأثرة بالأنثروبولوجيا السوفياتية (في الأغلب بشكل غير مباشر)، تدوين الرقصات المحلية، وتفصصيها إلى وحداتها البنائية الأولية، الحركات والإيقاع والملابس، وتكويد هذا كله، ومن ثم إعادة تركيبه ومزجه في روتين له خط سردي أو رمزي.

في كتابها "التطور الفني لمحمود رضا"، تكتب فريدة فهمي، بطلة الفرقة الأشهر، أن رضا لم يزعم تقديم التراث، بل استلهم من الرقصات الشعبية عناصر وظفها في تصميماته. يؤكد رضا نفسه ذلك، في كتابه "الرقص والحياة"، فتصميماته كانت خليطاً من تقنيات وعناصر غربية ومصرية، والكثير من الإبداع الشخصي.

لكن النظام الناصري الذي كان في حاجة إلى فولكلور وطني مقبول في الداخل، ويناسب تصوراته عن المجتمع الجديد، وفي الوقت نفسه يكون مشرِّفاً في الخارج، وجد ضالته فيه. أُمّمت الفرقة في العام 1961، بعد عامين فقط من تأسيسها، وضمن ذلك دعماً مادياً مستقراً لها، وكذا خضوعها لأيديولوجيا النظام. نزعت تصميمات رضا عناصر الإغواء والارتجال من الرقصات، وكذا حركات الزار ورقصات الموالد والذِّكر، بوصفها "غيبية"، مع تفادي حركات الأرداف والوسط، لاستبدالها بروتين شبه رياضي مع قفزات طويلة تشبه قفزات البالية، وحلت الجماعية بديلاً من الأداء الفردي، وكذا رقصات "بنت البلد" وصورة راقصاتها التي أخذت مسافة كبيرة من جمهورها بحيث بات ممكناً قبولها بين أبناء الطبقة المتوسطة الصاعدة، وباتت صالحة للتصدير في المهرجانات العالمية كتمثيل لروح الأمة المصرية والطبقات الكادحة.

يشير الباحث الأميركي، أنتوني شاي، في كتابه الصادر بالانجليزية "حين يرقص الرجال"، إلى أن رضا لم يجد رقصات يؤديها الرجال في منطقة الدلتا، باستثناء نسخ منزلية من الرقص البلدي، وكان لا يمكن بالتأكيد قبولها كتمثيل للذكورة المثالية. وينقل شاي عن رضا قوله إنه كان عليه "تخليق رقصة ما لهم"، وهو ما يصفه الكتاب بـ"تصميم رقصات الذكورة المفرطة". فرقصات الرجال بالخصر، والتي كانت شائعة في مصر وفي الموالد وحلقات الزار، وذات الإيحاءات المثلية، تم طمسها تماماً، أولاً بقواعد قانونية وضعها الاحتلال البريطاني، ولاحقاً بمحوها من سجل التراث الشعبي الذي وضعه رضا ومعاصروه. هكذا، لم تقم فرقة رضا فقط بتوليف "تراث" مستحدث، بل قامت أيضاً بإنتاج وتأكيد تصورات بعينها عن الذكورة والأنوثة، تتماهي مع الأيديولوجيا السائدة في زمنها.

على مدى ستة عقود، وحتى وفاته، شكلت التقاليد الفنية التي وضعها محمود رضا وفرقته كل تصوراتنا عن الفولكلور والرقص المصري، بل حتى تصوراتنا عن الخصائص الثقافية للأقاليم المصرية، تصورات معظمها مُختلَق إلى حد كبير، إن لم يكن بالكامل، لكن ذلك لا ينفي جمالياتها الفريدة، وأنها أضحت فولكلوراً في حد ذاتها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024