السلطة الرابعة ولغة 17 تشرين

نادر سراج

السبت 2020/10/17
استهلال
نتاجاتُ الشارع اللبناني القولية، وتلك المكتوبة، انطوت على أفكارٍ لمَّاحة ووجهات نظر تغييرية. عبَّرت عن حالات الثوران والغضب التي اجتاحت النفوسالقلقة فرددتها الحناجر. حملتها إلى فضاء الساحات عباراتُ مسبوكة بألفاظٍ مأنوسة الاستعمال، قريبة المنال وواضحة الدلالة.تعلَّمها المتظاهرون بالفطرة والمِراس من محيطيهم الأقرب والأبعد. ولاحقًا طبقوها بذكاء لافت في السياقات الاجتماعية ذات الصلة.

كتابنا الجديد "البلاغة الوظيفية: أوجه ومسارات قراءة في شعارات الحَراك الشعبي اللبناني"[1] يأتي استكمالًا لمشروعنا المعرفي الرامي إلى دراسة سيرورة اللغة في المجتمع وتجلياتها التعبيرية في لحظات الانقسام أو الصدع الاجتماعي.الكتاب يتناول بالدرس نماذج مؤشرة للبلاغة الشعبية العفوية التي أبصرت النور بعنايةِ شرائح شبابية منتفضة وإبداعاتها،والمدونة الشعاراتية حفلت بعشرات الشواهد الموثقة والمتنوعة المقاصد والدلالات. تجويد الأداة اللسانية والاستعانة بعلوم البلاغة مكّنانا من القيام بتحليل مفصَّل لما يقارب المئتي شاهد منها. وجدنا أنها تمتلك قدرة تمثيلية لما كان يتردد في الفضاء الاحتجاجي اللبناني من نتاجات قولية اعتراضية مبتكرة، مقنعة ومؤثرة. عنينا بها بلاغة جمهور الساحات أولًا، وتلك التي وَسَمَت التعليقات والتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي ثانيًا. الإعلامُ بوجوهه المكتوبة والمرئية وتلك الإلكترونية، حضر وكانت له حصة الأسد في هذا المجال.

استقراءُ الشواهد والتبصُّر في الدلالات ومردوداتها في صفوف المتلقين سمحا بتظهير معالم بلاغة الجمهور التي سُبكت على ما يبدو في لحظاتِ انفعالٍ ظاهر، وتحت وطأة معاناةٍ قاسية، وجاءت في غالبيتها رداتِ فعلٍ تلقائيةً على غضبٍ عارم اجتاحَ النفوسَ وترجمته الحناجر والأقلام. بعفويةٍ ظاهرة، وبالاستناد إلى موروثهم صاغ المحتجون مواجعهم في الساحات وعلى الجدران، مثلما في البرامج الحوارية التلفزيونية.

إحدى الناشطات عبَّرت بجرأة موصوفة عن تدهور أوضاع الناس، واعتبرت في برنامج حواري تلفزيوني: "نحنا شعب ماشي بجِنِّازو"، كما نطقت باسمهم: "الأحرار ناطرين ورقتين: ورقة فيزا وورقة نعوة وما مَعُن حقُّن". بمعنى أن خياراتهم ضاقت لدرجة أنهم باتوا مخيَّرين بين حدَّي الرغبة في الهجرة أو تمنّي انقضاء الأجل. وأحدهم تحمَّسَ فهتف " بدنا نوصل عَ بعبدا... هالثورة ما بتتهدَّا". الثاني علَّق على تبلُّغ زوجته "صاحبة الركلة الثورية الأشهر" مذكرةَ استدعاء إلى المحكمة العسكرية بالقول: "نام الشارع وبَلَّشِت المحاكم".

انفضاضُ حركة الشارع أفسحت في المجال أمام استدعاء ناشطي الانتفاضة. وثالثهم كتب "بوست" استلهم فيه شيفرة الملبس ووظَّف نوعَي الملبوسات اللذين اعتاد اللبناني استخدامهما في سواقي حديثه اليومي: "رَح نضُبّ الأحزاب مع الصيفي وننزِّل الحكومة مع الشتوي". والمقصود تجميد الانتماء الحزبي و"ضبضبته" من جهة والتبشير بإسقاط الحكومة خلال فصل الشتاء من جهة ثانية. والتعليق لا يخرج في العموم عن سياق ونطاق شعار مشابه: "ضبّوا أحزابكم...حلّوا عنَّا... تركونا نعرف نعيش".

الإعلام يتفنن في بلاغة سبك الرسائل 

الإعلامُ تفرَّد في صوغ صوره البلاغية التي تصدَّرت مانشيتات الصحف وعناوين بعض المقالات والافتتاحيات والتعليقات. سَبقُه الصحافي ومتابعته تطور الأحداث ومقاصدُه الإبلاغية اختلفت بالطبع وتمايزت عن صرخات جمهور الساحات وتغريدات الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي. الأطراف الثلاثة اتكأت على جماليات فنون البلاغة واستخدمتها بدرجات متباينة. هَمُّ الإعلام انحصر في تأدية رسالته المهنية والتعليق على مجريات الأحداث وإشهار موقف واضح منها. وما فاته اعتماد أساليب مجازية شعبية النكهة، تخاطب وجدان القرَّاء الذين يستحسنون وقعها الدلالي ويستسهلون تشفير مغزاها. وهو أصاب في انتقاء عناوين لافتة وصادمة للمقالات مثل "إدارة التفليسة" للكتابة عن الأزمة المالية والمصرفية التي تعصف بالبلاد. وكي يصوِب استخدامه، استهل الكاتب بالتأكيد على أن "العبارة ليست تشبيهًا أدبيًا، بل هي التشخيص للحالة القائمة في لبنان اليوم، وأي توصيف آخر لن يلطِّف الأمور".

مال الإعلام إلى أسلوبي الاقتباس والتضمين ونهل من المخزون القولي التراثي. التمكُّن اللغوي لكتّابه والبعد الثقافي الذي يمتلكونه أقدراهما على اصطياد صور بلاغية بالغة الدقة "حفر وتنزيل"، فعلت فِعلَها في نفوس المتلقين وأوفت بغاياتها الدلالية. الاقتباس من مخزون الأمثال الشعبية ظهر في عبارة استعانت بها صحيفة يومية لترسم مشاعر المواطنين، وسبق لسيدة من عين الرمانة أن رددتها أمام الكاميرا: "ما أغلى من الولد إلا توحيد البلد"[2]. ونتمثل ببعض المجازات الواردة في مانشيتات وعناوين الصحف: "موقعة الرينغ ليلًا.. كمين أمني عنيف لخنق المتظاهرين"، و"غزوة الرينغ" (اجتياح شارع مونو والهتاف "شيعة.. شيعة")، وذاك الحديث: الكورونا على "هِمَّة الأجاويد"[3]. ويُراد به: بعناية أصحاب النخوة والرجال الصالحين الخيِّرين. وفيه تعريض مضمر بهشاشة صيغ التدخل الرسمي المسؤول والفاعل. وبذلك يكون تناول مواجهات "الرينغ" قد استدعى مصطلحين حربيين: "الموقعة والغزوة"، في حين اكتفى الكلام عن وباء الكورونا بمجاز"الأجاويد". أحد المدونين كان أكثر تفاؤلًا فكتب "صباح الرينغ".

وفي هذا السياق أظهرت المدونة الشعاراتية أن الإعلام المكتوب تفنَّن في توظيف مبدأ التناص، بشكله المعروف والأكثر انتشارًا، أي الاقتباس[4]. نموذج "الحالة تعبانة يا ريَّا" شاهدٌ آخر على أنماط استخدام المجاز في الإعلام المكتوب. فالخطاب الصحافي اقتبس من الخطاب الفني الغنائي ما يعينه على إبلاغ رسالةٍ ما إلى السلطة، ويسهل في آنٍ على الناس تشفيرها. وهي مطلع أغنية رائجة لزياد الرحباني، تلمح بذكاء وظرف إلى معاناة الشارع من سوء التعامل الأمني معه.



الصحافيٌ الشاب عينه الذي استشهدنا بعنوان سابق له، عقد كذلك تناصًا بين كلمتين من نشيد "موطني" وعنوان مقال آخر حمل توقيعه. معالجته موضوعُ "الدَّين الجائر" حدت به إلى اقتباس مفردتين من النشيد العربي الذائع الصيت. فأدرجهما مُعّدَّلتين في العنوان لتخدما غرضَه الإبلاغي والاستقطابي معًا: "لا نريد... دَيْننا المؤبَّدَ وعيشَنا المُركَّدَ". استبدل كلمتي "ذلَّـنـا المـؤبـدا وعيشـنا المُنكـدا" بكلمتي "دَيْننا المؤبَّدَ وعيشَنا المُركَّدَ". وخلصَ إلى أن الدَّينَ العام المتزايد باطراد بات ذلًّا مؤبَّدًا تتحمل تبعاته أجيالٌ تلو أجيال.

ومن باب العِلمِ، فالتناص في النص هو احتواؤه على عناصر من نصوص أخرى، ويرتبط النص بتلك العناصر الأخرى بطرق مختلفة. وللتذكير فمفهوم التناص السيميائي الذي استحدثته جوليا كريستيفا (J. Kristeva) يقارب النصوص بوصفها تتضمن محورين: أفقي وعمودي. العمودي يعنينا هنا. فهو يربط بين النص والنصوص الأخرى (وفي حالتنا بين عنوان المقال كنص، أي كلام مكتوب، وبين النشيد كنص ثانٍ مقتبس منه).

جديدُ الاقتباسات من كلام العامة المُفصّح مانشيت تناول اجتماعًا رسميًا مع ممثلي الدول المانحة: سؤال سفراء "الدعم" في بعبدا عن "الخطة".."كَركَبَ الأوراق" في السراي!. يقول العامة: كَركَب البيتَ إذا قلبه وشَوّشَ نظامه، وفي اللغة كَرَبَ الأرضَ إذا فلحها للحرث كما في (اللسان)، والعامة صاغت منه "كَرَكبَ" بصيغة "فَعفَعَ" للدلالة على الكثرة والمبالغة. الصياغة جائزة وقولهم صحيح فصيح. والكراكيب كل ما لا نفع له من أثاث أو أدوات المنزل/سقط المتاع.

خلاصة

الخلاصة مفادها أن مرسلي الشعارات ومتلقيها غيروا بخروجهم إلى الساحات قواعدَ الاحتجاج اللغوية. استعادوا الفضاء البلاغي العام، استوطنوا ساحاته وميادينه بالمعنيين المادي والمعنوي. وأحالوه غابة من الشعارات والهتافات المسبوكة هذه المرة بلغتهم اليومية العفوية والبعيدة كل البعد عن لغة السلطة "الخشبية". خلعوا لمرةٍ "اللهجة البيضاء"، أو "اللهجة القناع". ونادوا بصوت صارخ، وبألوانهم التعبيرية المحلية، مطالبين بأبسط حقوقهم: محاربة الفساد وتوقيف الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة والتغيير والإصلاح والعدالة والحرية والعيش الكريم. تفكيرهم راحَ نحو إيفاءِ احتياج تواصلي طارئ وآني. وللتعليق عليه بحثوافي "دفاترهم" وفي موروثهم الثقافي عن لغةٍ تشبههم روحًا وشكلًا. فوجدوا ضالتهم في محكياتهم المعاصرة، القاطرة التعبيرية للتغيير التي أقدرتهم على ابتداع صور بلاغية بسيطة ومكثفة، صادقة وقادرة على ترجمة مواجعهم. روح السخرية البناءة والتهكم النفعي ما فارقا يومًا تعليقاتهم العفوية.

نتاجاتُ الشارع القولية، وتلك المكتوبة، التي حفل بها الكتاب، انطوت على أفكارٍ لمَّاحة ووجهات نظر تغييرية. عبَّرت عن حالات الثوران والغضب التي اجتاحت النفوس القلقة، فرددتها الحناجر، وخطتها الأنامل على جدران المدينة. حملتها إلى فضاء الساحات عباراتُ مسبوكة بألفاظٍ مأنوسة الاستعمال، قريبة المنال وواضحة الدلالة. تعلَّمها المتظاهرون بالفطرة والمِراس من محيطيهم الأقرب والأبعد. ولاحقًا طبقوها بذكاء لافت في السياقات الاجتماعية ذات الصلة.

أختم بأحدثِ شاهد، رقمي، بهذا الخصوص رصدته عشية الذكرى السنوية للأولى للثورة (16/10/2020). بأسلوبٍ بلاغي مبسّط ومبتكر، يكتب صديقٌ ذو رأي صريح ومصيب "بوست" على الشابِكة، يقارن فيه بين تبدّل الأحوال المعيشية ويوصّف بفطنةٍ تدهورها، مذكّرًا الجمهور بمسوّغات انطلاق الحَراك الشعبي: "17 تشرين الأول 2019 شعبٌ يثور على ظلم 6 دولار، 17 تشرين الأول 2020 شعبٌ بلا دولارات ولا ليرات".


[1]- كتاب يصدر قريبًا ويشكل أحد أضلاع ثلاثية لمؤلّفات علمية تتناول تحليل خطابات الغضب في كل من مصر (2011)، ولبنان (2015-2016)، و(2019- 2020). والمنشور أعلاه فصل بعنوان "السلطة الرابعة تساند الحَراك وكتّابها يبتكرون طرائق بلاغة متجددة"

[2]-نداءالوطن، 28/11/2019. والسيدة رددتها خلال نقل مباشر من منطقة عين الرمانة، قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال 27/11/2019.

[3]- مانشيت، اللواء، 20/3/2020.

[4]- نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبه، مراجعة نجوى نصر (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، الثبت التعريفي، ص 400-401.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024