حاتم علي بين غسان عبود وزهير رمضان...الظهور المتأخر للموت

أدهم حنا

السبت 2021/01/09
كان موت حاتم علي ظهوراً متأخراً للموت. الموت بالمعنى الأنسي الحديث، كردٍّ على دلالة أخرى، "النفوق السياسي"، أي الموت الحيواني بشقّه المادي البحت، الذي يتحلل فيزيائياً وكيميائياً ويمضي بلا معنى. في الثقافة الرمزية واليومية السورية الأسدية، يبدو أننا ننفق فقط، نتحلل ونموت من دون حمل معنى. السوريون في الزمن الأسدي البعثي، كل يوم يقولون عن موتاهم: "حقّه رصاصة، حقّك فرنك، راحو ببلاش، ارتاح من هالعيشة،.." كل هذه المقولات الملعونة تشبه عالماً طبيعياً حيوانياً لا معنى فيه لأي تحقق عقلاني أو إنساني. في موت حاتم علي تحققت ردّة مختلفة، في اكتشاف أن للموت معنى مختلفاً عما يجري في بلادٍ كاملة موتاها يوصفون بأنهم ينفقون، بشكلٍ مادي صرف.

كان لحرية حاتم بالمعنى الذاتي، أثرٌ كبير، وأيضاً للفن. الجنازة حملت طابعاً بشرياً جماعياً مختاراً ومحدداً، ليس الوجدان المشترك ما جعل السوريين ينزلون في خيوط بشرية طويلة لتقديم العزاء، بل اشتراكهم كردّ فعل لاواعٍ للاعتراف بالموت الإنساني المشترك في وجه إيديولوجيا عسكرية وسياسية حاولت صنع الموت بوصفه قيمة خاوية من أي معنى. رفع الآلاف كاميراتهم وأيديهم، لتصوير الموت والاعتراف به، على أنه موت. هنا، القيمة ليست لحاتم كفنان فحسب، واعترافاً للفنان بوصفه قيمة اجتماعية وفنية، بل ما تبقى من قيمة يمكن الإجماع عليها بوجه المقتول عسكرياً أو إرهابياً أو مقاوماً. في رفض تقديس العسكرة والفاشية الأسدية التي قدست المقاتل البشع والأجوف. الموتى المقاتلون فقدوا قيمتهم، في بلادٍ لا تملك سياسة ولا عقلنة ولا معنى اجتماعياً كثيفاً للعمل الروحي الغائي. موت حاتم علي نقطة بداية لما يريده العاديون ممن لا يحترفون السياسة، ونطاق تعبيراتها كاعتراف للموت الذي يهمهم ويعنيهم خارج الأدلوجة وسياقها.

كان الخلاف إذاً على تسييس موت حاتم بوصفه موتاً. فرفض النظام نعيه (أو نعاه الأسد متأخراً)، ذلك أن طبيعة موته تفقد معناها الذي يعترف به، فالميت مَن يكون قديساً ساذجاً للتضحية، قروسطي المعنى والتعبير، من أجل وطن لا يُرى ولا يقدم شيئاً. لا موتى في هذه البلاد سوى من يتبع النظام ويموت من أجل حماية كرسي قائده ونظامه، ومن يرسل لهم عسكره ليطلقوا النار ويرهبوا الناس برصاصاتهم في الطرق.

أما المعارضة بوجوهها الكثيرة، فشاهدت الموت بوصفه شعوراً عاطفياً، وبعضهم شاهد الموت بوصفه نفوقاً حيوانياً لمن لا يملك رأياً سياسياً في وجه نظام فاشي. في المعيار السوري، غيّر حاتم علي صيغة الموت المقبولة اجتماعياً، اكتُشف الموت في مسرح الشارع. في الأصل، المواطن الفردي يشعر بأنه ينفق كحيوان ساذج، غريزة تدميرية تتفاعل داخل السوري المهان في كل شيء، بدءاً من جوعه، وانتهاءً بصوته وحاكمية رأيه. والجميع من النخب يحاول معايرة الموت رغم أنه لا يظهر سوى كنفوق. بالكاد بقي حتى اليوم مَن يحصي الموتى مِن السوريين بالأصل جراء حربهم وجوعهم وفقرهم.

لا يمكن لوم حاتم علي على رأي امتلكه في السياسة، وحتى ما يبدو فيه مبدعاً، لا يحقق له أن يبدو ملهماً اجتماعياً أو سياسياً. في نهاية الأمر، يبقى حاتم علي مخرجاً تلفزيونياً ناجحاً، ولا يمكن جعله أكثر من ذلك. في عالمٍ قديم للتفكير، فيه غسان عبود وزهير رمضان، جرت محاكمة حاتم بوصفه رجلاً بلا أخلاق ولا يستأهل نعيه حتى. فأجازوا لأنفسهم قتل حاتم بعد موته. في سياق سوري عنفي، لا تبدو فيه السياسة حرفة، ولا تبدو زهداً في آن واحد، تجري محاولات قتل إضافي بحثاً عن معنى تفوقي أخلاقي حتى على الأفراد الذي يملكون شيطاناً خاصاً بعيداً من الحامل الاجتماعي وهمومه. هذا لا يعني أننا نطالب ميتاً بموقف سياسي، لكن ألا يستطيع السوريون أيضاً مساءلة محترفي السياسي عن غايات تصرفاتهم وعملهم وقيمهم ومعانيهم التي يبغون الوصول إليها؟

كان انعكاس الموت، آلاف الأيدي المرفوعة في بلاد لا يجتمع فيها الناس سوى لقتلهم بالرصاص، أو ليمجدوا الحاكم. بحسب إدوارد سعيد مثلاً، يبدو صمت حاتم علي فقراً في الثقافة الشخصية له، لأنه نأى عن الاستبداد والتسلط والوقوف في وجهه، لكن في الوقت ذاته، ألا يملك حاتم حرية أن ينأى عن المستنقع السوري لأنه شاهد ساسة سوريا في مستنقع دم؟

"الاقتصار على العمل التخصصي لا يعني الاستسلام الفاوستي".. في ما قدمه حاتم اقتصار على دور تخصصي، جرى فيه ذاتياً الابتعاد عما يبدو حرفة أخرى، مكتفياً بأن يكون عادياً في ما يخص السياسية. مع الطابع الثري الذي وضعه في الدراما، جعل موته موتاً إنسانياً لفرد سوري خاصٌ في عمله وكيانه، في بلاد فيها النفوق البهيمي سمة عامة وواضحة.

قد يبدو خلاف زهير رمضان، رئيس نقابة الفنانين، وغسان عبود، على موت حاتم علي معياراً للحسد العقدي، لدى اثنين من مبتذلي السياسية وساقطيها. الأول لا يجعل الفن أبداً معياراً في العمل اليومي، والثاني يظن أن السياسة حرفة مبتذلة. فن الأول عدمي، بالأصل ليس فناً، بل سلطة تدميرية للبشر بوصفهم أسديين أم لا، والثاني لا يعرف كم من المخيف أن تكون ثورياً، أو حتى أن تشارك في ثورة. أقله استطاع حاتم علي الموت سورياً، مات بين مواطنيه في حريةٍ قدم فيها أعماله كفرد، لا نعرف مستوى الحرمان الذي حصل عليه، إلا أنه مات كروح وجسد، وقيمة ما قدمه انعكس في مسرح النفوق السوري كدلالة ضدّية. من هنا، يبدو غسان عبود لاهثاً ليأخذ موقعاً أخلاقياً أسوة بزهير رمضان، وهما اللذان تشي مقدمات أعمالهم بفشل ذريع في ترك الأثر.

هذا لا يعني في نهاية المطاف أن حاتم علي لن يتحمل في عيون كثر لوماً لصمته، لكن في اعترافنا بتوتاليتارية النظام الأسدي، وطبيعة الفرد الذي أنتجه، لا يبدو هذا غريباً أبداً. شيطان الفن كان كافياً ليموت حاتم كما يحب. وفي مكمنٍ آخر، هناك التسامي الذي بالغ فيه السوريون، دلالةً على بحثهم عن موت مستحق لمن يقدملهم  شيئاً، ولا يبدو متسخاً، لا بسياسة يومية، ولا بمعنى فكري وثقافي عميق. هنا جرح آخر لعشرات المفكرين والكتاب والمثقفين الذين ماتوا وظهر موتهم أيضاً كنفوق. المبالغة تأتي من عصر التلفزيون والجهل السوري بما يبدو عميقاً. سوريا حملت في تاريخها القريب، آلافاً ممن يستحقون معنى عاماً لموتهم وألماً جماعياً أيضاً. لا نقلل هنا من حاتم علي، لكنه اتزان منصف لما يجب أن يعنيه الموت أيضاً في المسرح السوري.

عارض حاتم علي النفوق السوري واستثناه، على أمل أن يبحث السوريون عن أموات يستحقون العزاء، أو يتجرؤوا على رفع أيديهم ليصوروا مآتم يستحقون الاحتفاظ بتاريخها. موت حاتم مساءلة لثقافة السورين أيضاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024