"ليون كينغ": خذلان الواقعية الفائقة

شادي لويس

الجمعة 2019/08/16
كانت قاعة السينما ممتلئة على آخرها. لا مقعد شاغراً. ومع أني أتردد عليها مرة في الأسبوع على الأقل، فلم يسبق لي أن رأيتها بهذا الازدحام. فالسينما الواقعة في جنوب لندن، والتي كانت مركزاً للتسوق في الماضي، تضم قاعات من الضخامة بحيث يندر أن تمتلئ حتى نصف مقاعدها. كنت قد اخترت ليلة الجمعة، بحيث أتجنب ضوضاء الأطفال، فالنسخة الحية من فيلم "ليون كينغ" بالطبع ستجتذب عدداً كبيراً من الأسر، مع أفرادها الصغار. لكن الفيلم الذي مر على نسخته الأولى من الرسوم المتحركة 25 عاماً، كان قد جلب ليلتها جمهوراً من مطلع العشرينات إلى منتصف الثلاثينات، الفئة العمرية لمن شاهدوا الفيلم الأول في طفولتهم. هكذا تحصد شركة "ديزني" نجاح سياستها لتوظيف النوستالجيا. فقبل يومين، أُعلن أن الفيلم حقق إيرادات وصلت إلى 1.33 مليار دولار أميركي، ليصبح أكثر أفلام الرسوم المتحركة في التاريخ تحقيقاً للإيرادات، وليحل في المركز الـ12 بين الأفلام الأكثر مبيعاً، ومن المتوقع أن يصل إلى قائمة العشر الأوائل خلال الأسابيع المقبلة. 

ولم يكن "ليون كينغ"، هو القطعة الكلاسيكية الوحيدة التي تعيد "ديزني" طرحها هذا العام. فقبل شهور بدأت قاعات السينما في عرض النسخة الحية من فيلم "علاء الدين"، بعد 27 عاماً من عرض فيلم الرسوم المتحركة الذي يحمل الاسم نفسه. ومنذ أن قامت ديزني بإعادة إنتاج فيلم "كتاب الغابة" من العام 1994، أنتجت استديوهاتها 12 فيلماً آخر، كان آخرها "ليون كينغ" بأعلى موازنة لفيلم رسوم متحركة على الإطلاق، 260 مليون دولار أميركي.

ولم تكن النوستاليجيا وحدها وراء الإقبال الكبير على المعالجة الجديدة لـ"الأسد الملك"، فالموازنة الضخمة التي رصدت، والحديث عن توظيف أعلى تقنيات السينماتوغرافيا الافتراضية، وأدوات الواقع الافتراضي الرقمية، لم يُستخدم فقط للدعاية للفيلم، بل أيضاً سوّق بوصفه بداية دورة حياة جديدة لإنتاج ديزني، ونقلة قيل إن كلمة "تاريخية" ليست كافية لوصفها في الإنتاج السينمائي. 


استخدم مخرج الفيلم، جون فافرو، تقنيات "الرسوم المتحركة ذات الصور الواقعية" التي استخدمها في فيلمه السابق "كتاب الغابة" (2016)، لكن بتعديلات أكثر تطوراً. وقام بتحويل "ليون كينغ" الأصلي، مشهداً مشهداً، إلى نسخة تبدو شديدة الواقعية. فـ"سيمبا" الأسد الشاب يبدو أسداً حقيقياً تماماً، بتفاصيل شديدة الدقة، ويتحرك بطريقة لا يمكن تفريقها عن الواقع، ومعه كل حيوانات الفيلم الأخرى والطبيعة المحيطة بهم. ولوهلة ينسى المشاهد إنه يشاهد فيلم رسوم متحركة، فالصورة والحركة تتجاوز "الواقع" إلى ما يطلق عليه في الفنون التشكيلية "الواقعية الفائقة". لكن برامج الذكاء الاصطناعي التي خلقت الفيلم، لم تنجح في إضفاء الكثير من المشاعر على وجوه أبطاله من الحيوانات. فالمشروع بأكمله مصمم بحيث تبدو الأسود أسوداً حقيقية، ولذا تبدو صورتها وهي تتكلم غير متسقة مع الصوت أو السياق، وكأنها ترجمة صوتية بلغة أخرى مضافة على للفيلم الأصلي.

لكن تلك ليست المشكلة الوحيدة، أو الأساسية، فالتقييمات شديدة التدني التي منحها الجمهور والكثير من النقاد للفيلم، ترجع إلى وصفهم إياه بأنه بلا روح، مجرد استعراض تقني يفتقد للجمالية. فما فات "ديزني" هنا هو أن النجاح الساحق التي حققته الرسوم المتحركة، في الماضي لم يكن لأن "ميكي" يبدو كفأر حقيقي، أو إن "بطوط" يتحرك مثل بطة فعلاً، بل غالباً العكس تماماً. المبالغة ومساحة الخيال الواسعة، التجريد، والمفارقة الفانتازية، والبراءة والقدرة على المناورة التي تتيحها أدوات الرسوم المتحركة ذات البُعدين، تفتقدها تكنولوجيا "الواقع-الافتراضي" ثلاثية الأبعاد.

يبدو ذلك كله تقدماً تقنياً بلا شك، لكنه كارتكاس جمالي أيضاً، نكوص نحو قيم فنية أدني في السلم التاريخي. حين ظهرت الكاميرا الفوتوغرافية للمرة الأولى، حاول الرسامون تقليد صورها المهزوزة وغير الواضحة، فظهرت المدرسة الانطباعية. دفعت التكنولوجيا في الماضي تحول الفنون البصرية، عن نسخ الواقع، إلى إعادة إنتاجه جمالياً. ومع تقدم تكنولوجيا التصوير، لم تعد للفنون التشكيلية قدرة على المنافسة في مجال النسخ، ووجدت نفسها مجبرة على إنتاج قيم جمالية جديدة، أكثر تجريداً. لكن مدارس "الواقعية الفائقة" تعود في الفنون التشكيلية، هذه الأيام، كاستعراض مهارة، لنسخ الواقع حرفياً، وتتحول رسوم "ديزني" المتحركة إلى صور حيوانات حقيقية مخلقة، كعلامات على الخواء الجمالي، لا أكثر.

تنقذ النوستاليجيا "ليون كينغ"، لكن لا يبدو أن نجاحه سيصل إلى مستوى نجاح النسخة القديمة من الرسوم المتحركة. صحيح أن الفيلم حقق، خلال الأسابيع الأولى، الإيرادات الأعلى تاريخياً، لكن، وبحسب مجلة "فوربس" الأميركية، فإنه حين نأخذ قيمة التضخم في الاعتبار على مدى الربع قرن الماضي، سيظل "سيمبا" الكارتوني، أكثر نجاحاً، والأعلى في الإيرادات بفارق كبير، والأكثر إبهاراً بالتأكيد.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024