الثقافة اللبنانية في مرحلتها العونية

روجيه عوطة

الإثنين 2020/01/13
المشاريع الثقافية تنتهي، توديعها ضروري. لكنها، في بيروت، وحين ترتطم بنهايتها، تبدو عصية على النعي، فهي تريد أن تكون، وعلى شاكلة كل مؤسسات النظام اللبناني المتساقط، جثثاً ترفض الدفن، وتحب الدوام بعد موتها. فمشروع "متروبوليس أمبير صوفيل" انتهى، وبدلاً من أن يكون النعي والدفن-وهما طريقان إلى ولادته، أو بالأحرى ولادة فكرته، مرة أخرى- بدلاً من أن يكونا بمثابة تأكيد على أنه تعرض للقتل، وعلى أنه، للأسف، شارك في مقتله، راح يكابر بهما على واقعه.

فجأةً، انسحب الفاعل الثقافي، أي جمعية "متروبوليس"، من الثلاثية، التي لطالما شغلها الى جانب البنك والمستثمر، مقدماً نفسه أنه ضحيتهما فقط لا غير. عبر هذه الضحوية، أراد هذا الفاعل أن يمحو مشاركته في اغتيال مشروعه، أن يتنصل من مسؤوليته حيال وضع هذا المشروع في خدمة حكم المصرف ومستثمره. لكن التنصل ليس مغادرة من الثلاثية إياها، إنما البحث عنها من جديد. هذا ما يشير إليه ترداد خطبة التعود والتحدي "للظروف السياسية والأمنية"، التي تنم عن المنطق المتحكم في العمل الاستثماري في البلاد، وقبله، العمل البنكي أيضاً. فالمنطق هذا، وحين يكون "موسيقى" الفاعل الثقافي في "تمرده" على ثلاثيته، فلن يمضي به سوى إلى البقاء فيها.

لقد دفع الفاعل الثقافي على عمومه ثمن تقيده بهذه الثلاثية، بحيث أخضع فيها الثقافة لطرفي القوة فيها. وإخضاعها على هذا النحو، يعني، أولياً، تفريغها، تفريغ محتواها، عناوينها، مفاهيمها، شعاراتها، تواريخها، من معانيها، من كل معانيها، لتصير مجرد بث للأوهام. هكذا، وبدلاً من أن تكون، أقله وبديهياً، في تساوي مع الطرفين، يجعلها فاعلها كناية عن ثقافتهما، أو بالأحرى امتداداً لثقافتهما. وبالتالي، يضعها تحت أمرتهما، فتنتهي، وبمعيرتهما لها، إلى كونها مجرد عمل من أعمالهما، التي من الممكن أن يتخلى عنها في أي وقت كان. وعندها، بديهي القول أن فاعلها، القيّم عليها، ليس ضحية ثلاثيته، إنما، ومن موقعه، شارك في اغتيالها. الفاعل الثقافي، وحين يجعل من الثقافة تحت إمرة المستثمر والمصرفي، لا بد من ادراكه أنها، وفي حسبانهما، مشروع، وفي الاساس، خاسر، لكنهما، ومع ذلك، "يدعمانه"، مرةً، من باب المحاولة، ومرةً، من باب البرستيج، وحيناً، من باب الشفقة، وغالباً، من باب التسييل المالي وتبييضه. لكن، هل هذا الفاعل الثقافي فعلاً لا يدرك؟

في الحقيقة، لا يمكن الحسم في كون هذا الفاعل يدرك أو يتظاهر بأنه لا يدرك. لكن ممارسته بعينها تجعل من السؤال عن إدراكه خالياً من أي نفع، بحيث تبدله إلى آخر: كيف ينشأ هذا الفاعل؟ طبعاً، لا يمكن الإجابة هنا بالتفصيل، لكن بديهي الإشارة إلى أنه، وبما هو مركزي أو رسمي بالتحديد والحصر، ليس سوى من إنتاج المؤسسات في وسطه، إذ تنتجه ليشغلها.

وبالتالي، ليس متاحاً له أن يكون فاعلاً في ثقافته من دونها، أو بالأحرى وجوده مشروط بوجودها. فإن غابت هذه المؤسسات ينعدم، كما أن بغيتها هي بغيته، التي، وفي درجتها القصوى، تنطوي على أن يكوِّن مؤسسة، أو على أن يكون هو المؤسسة. باختصار، وحين يكون الفاعل مطابقاً لإنتاجه المؤسساتي، وحين تكون مؤسسته هي من إنتاج الثلاثية نفسها، التي يشغل موضع فيها إلى جانب المستثمر والبنك، فلا شك أنه لا يمكن سوى أن يتمسك بها لأنه، عندها، يتمسك بوجوده. فتلك الثلاثية، التي تحكم عدداً من مؤسساته، من صالات إلى غاليريهات، هي "بيئته"، التي، وإن أعلن "تمرده" عليها، فهذا، لأنه لا يريدها أن تزول لكي يتواصل: "التمرد" على "بيئة" تتلاشى لكي تبقى كما هي، أي مزيج من العتب والسخط وقلة الحيلة.

لا شك في أن هذا الفاعل الثقافي اليوم ليس بخير، فثلاثيته تتحطم، كما أن انتاجه المؤسساتي يتوقف، وخلال ذلك، يتبدى أنه حقاً من النظام الذي انفجر من داخله قبل أشهر. فعلى نحوه، لا يتحمل أي كلام عن وضعه، وعلى نحوه، يدافع عن بغيته استئناف ما تحطم وتوقف وسقط بكل ما "امتلك" من تفاهة كأن شيئاً لم يحصل، وكأن شيئاً لم ينتهِ. ثمة، وببساطة، مرحلة أخرى، انتقل إليها رجاء الثقافة في لبنان: مرحلة التطابق الكلي بينه وبين النظام، وبينه وبين العهد.
أهلاً وسهلاً بكم في المرحلة العونية!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024