الإسرائيليون "يجلّون" الرفات.. لأن الإنسان "حارس جسده"

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2019/04/09
قبل أيام، حطت طائرة "العال" الإسرائيلية في مطار تل أبيب، حاملة رفات جندي إسرائيلي فُقد في معركة السلطان يعقوب في الحرب على لبنان العام 1982. درات هذه المعركة بين الجيشين السوري والإسرائيلي، وقُتل فيها ثلاثون جندياً إسرائيلياً، بينما بقي مصير ثلاثة إسرائيليين غير معروف. منذ ذلك التاريخ، نشطت الاستخبارات الإسرائيلية خلال هذه الأعوام في جمع معلومات عن موقع رفات المفقودين، ونجحت أخيراً في استعادة رفات أحدهم.


سلّمت وزارة الدفاع الروسية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفات الجندي المفقود في مبنى وزارة الدفاع الروسية لدفنه في وطنه، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه المناسبة: "جنودنا والسوريون عثروا على جثة زخاريا باومل. وثمة أهمية لأن يتمكن أقرباء عائلته من وضع باقة زهور على قبره". جرت عملية التسليم في مشهد احتفائي يثير الدهشة، وتردّد السؤال: لماذا يحرص الإسرائيليون على تكريم رفات قتلاهم وتعظيمه بهذا الشكل بعد مرور كل هذه السنوات؟

"أذكر يا انسان أنّك من التراب وإلى التراب تعود"، عبارة يردّدها المسيحيون في بداية صومهم، ومصدرها الأول "سفر التكوين" في الكتاب المقدس. والتراب هو في العبرية "عفر"، وهي الكلمة العربية نفسها، لفظاً ومعنى. ومنه جُبل الله الإنسان الأوّل، كما يقول "سفر التكوين": "وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية" (2، 7). وهو يرمز إلى فنائه، كما يؤكّد قول الله لآدم: "بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود" (3، 19).

تتكرّر هذه الصورة مراراً في أسفار العهد القديم. نقرأ في "سفر المزامير": "لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن" (103، 14). وفي "سفر أيوب": ""فكم بالحري سكان بيوت من طين، الذين أساسهم في التراب، ويُسحقون مثل العث". وفي "سفر الجامعة": "لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل. فليس للإنسان مزية على البهيمة، لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب، وإلى التراب يعود كلاهما. من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟" (3، 19-21). "لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي"، "فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (12، 5-7).

من المفارقات المثيرة، لا تتحدّث الأسفار الموسوية عن قيامة الأموات بشكل جليّ، ولا تجعل منها ركناً من أركان الإيمان الأساسية. لا نجد ذكراً واضحاً للحياة الأخرى في أسفار الشريعة والتاريخ، كما أننا لا نقف فيها أمام أي حديث مباشر يقرّ بقيامة الأجساد من الموت. نقرأ في "سفر تثنية الإشتراع": "الآن، إنني أنا هو ولا إله معي، أنا أُميت وأنا أُحيي، وأجرح وأُشفي" (32، 39)، غير أن هذا "الإحياء" لا يجد له وصفاً إلاّ في بعض الأسفار الشعرية والنبوية. يقول أيوب "إن الغمام يتبدّد ويعبر، وكذا الهابط إلى مثوى الأموات لا يصعد" (7، 9)، ويبدو في قوله هذا موافقاً الاعتقاد الشائع بأن الأموات يهبطون إلى ما يُعرف بالـ"شؤول"، وهذا التعبير العبري مجهول الأصل، ويدلّ على أعماق الأرض حيث يهبط الأموات ويختلط الصالحون بالأشرار.

في المقابل، نجد في سفر صموئيل الأول إشارة إلى القيامة، حيث تصلّي حنّة التي حبس الرب رحمها وتتضرّع الى الذي "يميت ويحيي، ويُحدِر إلى مثوى الأموات، ويُصعد منه" (2، 6). يظهر هذا "الصعود" في الكتب النبوية التي وُضعت بعد سقوط إسرائيل، في الزمن المعروف بـ"زمن سبي بابل". يتنبّأ دانيال بقيامة الجسد ومكافأة الأبرار وعقاب الخطأة في "وقت النهاية"، حيث يستيقظ الكثير من الراقدين في أرض التراب، "بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرّذل الأبدي" (12، 2). ويرى حزقيال كيف ينشأ العصب واللحم على العظام اليابسة قبل أن يحلّ عليها الروح ويحييها (37، 1-14)، ويجد هذا المشهد ترجمته التشكيلية الأقدم في جدارية من كنيس يهودي في دورا أوروبوس التي تُعرف اليوم بصالحية الفرات، نواحي دير الزور في بادية الشام. وهذا الكنيس يعود إلى العام 244، وجدارياته محفوظة في متحف دمشق الوطني.

دخل مفهوم قيامة الأجساد بعد الموت إلى اليهودية في المرحلة التي تُعرف بـ"المرحلة الربّانية"، وهي "المرحلة الحاخامية" التي تأسّست بين القرنين الثاني والسادس. وأقرّت به طائفة الفريسيين، والفريسيون هم المفرزون، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم مفروزين عن الشعب لقداستهم، وهم فئة تضم كهنة وعلمانيين، وقد عرفوا بتمسّكهم وبتشدّدهم في حفظ عوائد تسلّموها ممّن سبقوهم. على العكس، رفضت طائفة الصدوقيين هذا المعتقد، وهي الطائفة التي لا تقبل سوى أسفار موسى فقط، وكان عملها المحافظة على نظم الهيكل والضرائب ومراقبة الخزائن. على مدى قرون من الزمن، ظلّت قيامة الموتى موضع سجال في اليهودية، رغم شيوعها في القرون الوسطى، وتجنح اليهودية المعاصرة إلى رفضها مع الإقرار بخلود النفس، إذ تعتبرها دخيلة على اليهودية الأصلية.

على النقيض من ذلك، تشكّل القيامة حجر الأساس في المسيحية. بحسب الأناجيل، أخبر المسيح بقيامته من بين الأموات مرّات عديدة قبل صلبه وموته ودفنه، وعلّم بوضوح بأن الموتى سيقومون، ناقدا حجَّة الصدوقيين الذين كانوا ينكرون القيامة، من أساسها. ونادى رسله من بعده بالقيامة العامة التي فيها يقوم الأبرار والخطأة. في "أعمال الرسل"، قال بولس الرسول: "سوف تكون قيامة للأموات، الأبرار والأثمة" (24، 15). وردّد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: "كيف يقول قوم بينكم إن ليس قيامة أموات؟ فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم". وأضاف: "لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم".

لا يتحدّث أيٌّ من الإنجيليين الأربعة عن نزول يسوع إلى مثوى الأموات بشكل مباشر، إلا أننا نجد في بعض رسائل العهد الجديد إشارات تتصل اتصالاً مباشراً بهذا الحدث الغامض. ففي رسالته الأولى، يقول بطرس إن المسيح "أميت بجسده ولكنه أُحييَ بالروح، فذهب بهذا الروح يبشر الأرواح التي في السجن" (3، 19). وفي رسالته إلى أهل أفسس، يؤكّد بولس أن المسيح الذي صعد إلى ما فوق السماوات "نزل أيضاً إلى أسافل الأرض" (4، 9).

أقرّ الإسلام بقيامة الموتى، وجعل منها ركناً من أركان الإيمان، كما توضح سورة "المؤمنون": "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏.‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏.‏ ثم خلقنا النطفة علقة‏، فخلقنا العلقة مضغة‏، فخلقنا المضغة عظاماً‏، فكسونا العظام لحماً‏، ثم أنشأناه خلقاً آخر‏،‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏.‏ ثم إنكم بعد ذلك لميتون‏.‏ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون" (‏12‏ ـ‏16). وجاء في "سورة الإسراء": "وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً" (49). استعاد المفسّرون "رؤيا النبي حزقيال" في تفسيرهم آية من آيات "سورة البقرة": "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون" (243). ونقل الطبري رواية تقول: "إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطاً، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله، فبعثهم الله له". تجد هذه الرواية ترجمتها التشكيلية في واحدة من المنمنمات الأربعين التي تزيّن مخطوطاً بعنوان "زبدة التواريخ" أُنجِز العام 1583 بطلب من السلطان مراد الثالث.

‏يبقى السؤال: لماذا يحرص الإسرائيليون على استعادة رفات موتاهم؟ في الواقع، تقول الديانة اليهودية بأن الإنسان حارس جسده وليس سيّده، وترفض كل تعرّض لهذا الجسد، وتذهب في رفضها هذا إلى تحريم تشريح جثّة الميت كما إلى حرقها. ترتبط الروح ارتباطاً وثيقاً بالجسد، وترمز إلى هذا الارتباط قصة من التلمود تقول بأن رجلاً مشلولاً سرق ثمرة من شجرة بمساعدة رجل أعمى، فباتا شريكين في الخطيئة، وهكذا يشترك الجسد والروح في الإثم الواحد، كما أنهما يشتركان معا في الخلاص. ويبدو أن إجلال رفات الميت يشكّل تعبيراً من تعابير إكرام جسده، ولو بعد انحلاله وتحوّله إلى تراب.

في "سفر التكوين"، على مشارف الموت، دعا يعقوب ابنه يوسف وقال له: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فضع يدك تحت فخذي واصنع معي معروفاً وأمانة. لا تدفنّي في مصر، بل أضطجع مع آبائي، فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم. فقال: أنا أفعل بحسب قولك" (47، 29-30). سار يوسف على خطى والده، ولما دنت ساعة رحيله، جمع أولاده وباركهم، "وأوصاهم وقال لهم: أنا أنضم إلى قومي. ادفنوني عند آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي" (49، 29).

نجد في هذه الأقوال خير تعبير عن حرص الدولة الإسرائيلية على نقل رفات جنديها لدفنه في "أرضها" التي سلبتها من أصحابها في القرن الفائت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024