انفجار الزمن المأزوم في الجميزة ومارمخايل

حسن الساحلي

الأربعاء 2020/08/19
خلال الاسابيع السابقة على الإنفجار، وفي كل مرة كنت اعود فيها إلى منزلي في الجميزة، كنت أسمع الملاحظة نفسها من سائقي التاكسي حول "راحة بال مرتادي الحانات والمقاهي، غير المتأثرين بالأزمات الإقتصادية التي يعانيها لبنان!".

لم يكن المثير للإستهجان بالنسبة لهؤلاء، فقط تعابير الفرح والترفيه في الشارع النابض دائماً بالحياة، بل أيضاً الاستعراض المتبادل للأزياء والممتلكات، الذي يمارسه زوار الشارع أمام بعضهم البعض، ما يذكر باللامساواة التي يعيشها أبناء الطبقات الفقيرة بشكل عام في لبنان.

لكن تلك الملاحظة لم تقتصر فقط على سائقي التاكسي المتضررين أكثر من غيرهم من الأزمة الاقتصادية، بل أيضاً من أصدقاء، أوضاعهم المادية جيّدة نسبياً، من بينهم صديقة قالت لي قبل أيام من الإنفجار أنها تشعر حين تزور الجميزة كأنها في عطلة: "هنا أنسى في أي بلاد مأزومة أعيش، بعكس الحمرا التي تذكرني بشكل دائم بواقعي".

عاشت صديقتي في الحمرا ورأس بيروت، منذ انتقالها من صيدا الى العاصمة، قبل عقد من الزمن. لم تكن تلك الأحياء قبل الحرب مختلفة كثيراً عن الجميزة اليوم (أو زقاق البلاط مثلاً) إن كان من ناحية الطابع التراثي للمباني، التي لم يعد سهلاً اليوم ملاحظتها بسبب كثافة العمران والإزدحام، أو من ناحية الفئات الإجتماعية التي تعيش في هذه الأحياء، أي الطبقات الوسطى المدينية، بالإضافة إلى الأجانب واللبنانيين المرتبطين بالمؤسسات التعليمية والديبلوماسية الذين شكلوا جزءاً كبيراً من سكان رأس بيروت قبل الحرب (من سمات الجميزة التي بقيت ظاهرة حتى خلال أزمة كورونا، ارتفاع نسبة الأجانب والأوروبيين بالمقارنة مع أحياء أخرى في بيروت).

مع اندلاع الحرب، بدأت تلك الأحياء تشهد تحولاً في طابعها الديموغرافي بسبب عمليات التهجير القسري الذي طاول شرائح واسعة من السكان، قبل أن يطاول التحول بعد الحرب الطابع العمراني الذي ينتمي للمرحلتين العثمانية والفرنسية (ولو أن ذلك حصل على دفعات) بتحفيز من الإزدهار العقاري وصفقات سماسرة السياسة والإقتصاد والمصارف الذين دمروا الجزء الأكبر من المباني التراثية في بيروت خلال العقود الثلاثة الماضية.


(بعد الانفجار)

لكن، في الجميزة، لم يحصل ذلك التحول كاملاً، واقتصر على الجانب الديموغرافي الذي تبدل مع هجرة جزء من سكان الحي وقدوم شرائح جديدة خلال الحرب (كانت حصة مارمخايل بلا شك أكبر من الجميزة من ناحية المهجرين القادمين من الجبل ومناطق مسيحية أخرى). استطاع الحي مقاومة مشاريع التغيير العمراني التي شهدتها بيروت بعد الحرب، ليتمكن من ترميم نفسه بشكل عضوي وأصيل بفضل الجو الذي خلقته مجموعات المهندسين الذين نشطوا في مواجهة "سوليدير".

هكذا، أصبح الحي هو المرشح البديهي لوراثة رأس بيروت كمركز للسهر والفن والثقافة بعد الحرب (وليس وسط بيروت)، من دون أن يعني هذا موت رأس بيروت كلياً، أو عدم وجود أحياء أخرى تمتلك دوراً شبيهاً. هذا قبل أن تتوسع الحانات تدريجياً نحو الشرق، وتبدأ منطقة مارمخايل–النهر بمشاركة الجميزة في دورها الثقافي، علماً أن مارمخايل تمتلك طابعاً مختلفاً نسبياً وهي منطقة أكثر شعبية بلا شك (ما سمح لفئات الشباب بامتلاك حيّز أكبر في تلك الأحياء من حيزها في الجميزة التي تغلب عليها فئات عمرية أكبر).

جذبت المنطقتين بالإضافة للشرائح الشبابية، شرائح العاملين في الفن والثقافة أيضاً الذين وجدوا مكاناً يشعرون بالحرية فيه والاستقلالية عن أحياء الأهل ذات الطابع الطائفي. اليوم، في حال معاينة خريطة المراكز الفنية والغاليريهات في بيروت، سيبدو واضحاً تركز أكثر من 75% من هذه الأمكنة في مارمخايل والجميزة، وقد حصل هذا التوسع الكبير في أقل من عشر سنوات!

منذ سنوات، قررتُ الإنتقال للعيش في حي قريب من مارمخايل، لأشعر أني أقرب مما يحصل في بيروت من ناحية الثقافة والفن، قبل أن انتقل مؤخراً الى الجميزة، مستفيداً من تراجع الأسعار بسبب الأزمة الإقتصادية.

بعد انتقالي الى الجميزة، أحسستُ بترف الإنفصال عن الواقع الذي كان يتحدث عنه سائقو التاكسي والأصدقاء قبل الإنفجار. حتى إني بدأت أعوّل على هذا الشعور، للمحافظة على شيء من التماسك النفسي الذي من الصعب المحافظة عليه في مدينة مأزومة مثل بيروت، ولو أني كنت أعرف أن الشعور ليس سوى وهمٍ خالص.

لطالما سخر الأصدقاء من أجواء العاملين في الثقافة والفن، التي تشبه "آكواريوم السمك" المنعزل والمنفصل عن محيطه. لكن هل كان ممكناً العيش بطريقة مختلفة عن التي حصلت؟ وهل أفسحت المدينة أصلاً المجال لتقبل المختلفين عنها كي يختلطوا بشكل أكبر مع المناطق الأخرى؟

في كل الأحوال، ما أثبتته الأيام الماضية، أن الأكواريوم المنفصل عن الواقع، لم يكن سوى وهم أيضاً، فالإنفجار سيصفع أهالي الجميزة ومارمخايل - من جميع الفئات - على وجوههم، ويعيدهم إلى الزمن اللبناني المأزوم الذي تدل عليه بشكل مثالي، الساعات التي توقف فيها الوقت بسبب قوة الإنفجار، والتي نتداول صورها بكثرة في وسائل التواصل الإجتماعي منذ 4 آب حتى اليوم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024