الحياة السياسية للقديسين

شادي لويس

الجمعة 2019/08/23
وصلت أنجي هيو إلى القاهرة، مطلع الألفية، كمدرسة للموسيقى في مدرسة دولية. كان الدافع لانتقالها من الولايات المتحدة حينها هو فضول للتعرف على الإسلام. لكن هيو، الأميركية من أصول كوري، وعلى غير خطتها المبدئية، انتهت بالتسجيل لدراسة الدكتوراة في مجال الأنثروبولوجيا، وبرسالة عن قديسي الكنيسة القبطية.

لكن، وعلى خلاف ما يبدو، فإن خطط هيو لم تتغير كثيراً. فبحسب كتابها "الحياة السياسية للقديسين"، الصادر بالإنكليزية في كانون الأول/ديسمبر2018، فإن "المسيحية" و"الإسلام" ليست اصطلاحات ثابتة دائماً، أو يمكن التمييز بينها بوضوح في سياق دراستها. فالموالد الدينية والأضرحة والزيارات والنذور والمعجزات العلنية ومواكب الزيارة، جميعها تبدو ساحة مشتركة للأقباط والمسلمين معاً. ينطلق الكتاب من فرضية مبكرة بأن ما يتشاركه الأقباط والأحباش والأرمن والسريان، وغيرهم من مسيحيي المشرق، مع مواطنيهم المسلمين، يفوق ما يربطهم بالمسيحيين في الغرب وأماكن أخرى من العالم. وفي هذا السياق، تستشهد بالمبشرين البروتستانتيين الذي وجدوا في الطوائف المسيحية في المنطقة، درجة أدنى من النقاء اللاهوتي، ولذا حاربوا المعتقدات والطقوس المتعلقة بالقديسين بضراوة. ليس فقط لأنها تقاليد غير إنجيلية، بل أيضاً لأنها ساحة تتهاوى فيها الحدود الطائفية.

تبدو سير القديسين الذي يحلقون في الهواء ويحاربون التنانين، أو تنمو أطرافهم بعد أن يقطعها الأباطرة، والعذراء التي تظهر فوق قباب الكنائس، موضوعات في غاية التشويق لدراسة أنثروبولوجية، لكن هيو كانت معنية أكثر بالسياسة وراء المعجزات، وفي تاريخ الأيقونة. تظل الدراسة عن قديسي الأقباط، لكن بوصف قصصهم والممارسات المتعلقة بهم، ساحة للتلاقي بين المصريين على اختلاف أديانهم، ومجالاً للتفريق بينهم أيضاً، وأداة لبناء هويات بعينها.

فالظهورات الطويلة للعذراء فوق كنيسة الزيتون في القاهرة، بعد عام من النكسة، لم تكن فقط المعجزة الأكبر في تاريخ الأقباط الحديث، بل صاحبَتها حالة من التضامن الوطني العابر للطوائف. فبالإضافة إلى الحضور الكثيف للمسلمين في مكان الظهور، على مدى شهور، فإن الأسطورة المتعلقة بالمعجزة رسخت نقطتين في الذاكرة الجمعية. أولاً، أن مسلماً من سكان المنطقة هو أول من رصد الظهور. وثانياً، أن قطعة الأرض التي بُنيت عليها الكنيسة الكبيرة بعدها، لاستيعاب الزوار وطلاب البركة، كانت هدية من عبدالناصر نفسه.
 
قبل أربعة أيام، منعت أجهزة الأمن، وفداً من أعضاء "جمعية الحفاظ على التراث" من دخول أديرة وادي النطرون، متعللة بوجود مسلمين بين أعضاء الوفد. وعلقت أجهزة الأمن بأن هناك قراراً جديداً بمنع دخول المسلمين لأماكن العبادة المسيحية من دون تصريح مسبق. وفي خلال الأسابيع الماضية، أقيمت احتفالات بموالد العذراء، في محافظات مصر المختلفة، فشهر آب/أغسطس هو شهر أم النور، وتمتد احتفالاته من مسطرد في القاهرة إلى جبل درنكة في أسيوط. ورغم صدور قرار أمني قبل عامين بمنع مشاركة المسلمين في الموالد القبطية، فإن ألوفاً منهم تقاطروا على أماكن الاحتفال للتبرك ووفاء النذور أو مجرد النزهة. وتظل الممارسات الأمنية متباينة وانتقائية من مولد إلى آخر، أو بحسب قرارات شخصية ومحلية تتغير دائماً، فوجود المسلمين في الساحات الخارجية لأماكن العبادة القبطية، أو وراء أسوارها، كان مسموحاً به على مضض أحياناً، وفي أحيان أخرى سمح لهم بالدخول إليها أو مُنعوا تماماً من الاقتراب. ولا تبدو سياسات التضييق الممنهجة مقتصرة على الموالد القبطية، فأجهزة الأمن مارست أنواعاً مختلفة من القيود على الموالد الإسلامية، خلال السنوات الأخيرة، كان من ضمنها إغلاق ضريح الحسين في القاهرة في يوم عشوراء.

تؤكد تلك الممارسات الأمنية ما يذهب إليه كتاب هيو، الذي يغطي فترة تاريخية تمتد من تأسيس كنيسة الإسكندرية، حتى العام 2015. فهي تخصص قدراً معتبراً من دراستها للتغيرات التي حدثت أثناء الثورة المصرية وبعد الثلاثين من يونيو، لتصل إلى أن الكنيسة وقديسيها أضحوا "مجالاً رئيسياً لصناعة الأقلية والحكم الاستبدادي".

لا يقودنا "الحياة السياسية للقديسين" إلى تصور رومانسي عن الماضي الأكثر تجانساً، أو إلى نقد للحداثة والدولة الحديثة يُرى فيهما هدم لتعايش الأزمنة الماضية. لكن الكتاب يرصد، من دون إطلاق الأحكام، الطرق التي تُوظَّف من خلالها المعجزة والأيقونة والمقام، لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين المسلمين والأقباط، ولأغراض سياسية مختلفة ومتغيرة. والأهم، كيف ينال القديسون حيوات أخرى يعيشونها، على غير رغبتهم. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024