أوراق الكولومبي فاسيولينسي.. مصر الأهرام البلاستيكية

شريف الشافعي

الخميس 2019/04/04
على حد رؤية بودلير أن المسافرين الحقيقيين هم "أولئك الذين يرحلون فقط من أجل الرحيل"، فإن الكتّاب الحقيقيين قد يكونون هم الذين يكتبون فقط من أجل الكتابة، وفي ما يدوّنونه بكرّاسات السفر على وجه الخصوص، لا يهدفون إلى أن يصيروا مؤرخين للبلاد والعباد، لكنهم يكتبون بشراهة الأطفال وثرثرتهم، فقط لأن الرحلة أسَرَتْهم، وحوّلت ما لديهم من فضول وشغف وسحر إلى كلمات.

في أدب الرحلات الذي خلّفه روائيون وشعراء ومصوّرون من المبدعين النابهين، ترى مصرُ ذاتها، والشرقُ عمومًا، في مرآةٍ أصدق من كتابات المؤرخين، المحليين والوافدين. فالكتابة الإبداعية هنا، ورسائل الرحّالة المغامرين، تتجاوز وصف القائم في لحظة ثابتة، لتكون استشعارًا لتاريخ المكان وقراءة لخريطة البشر، فهي ببساطة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

في مثل هذه الكتابات، تبدو صدمة الذات مضاعفة، فهي تتخلى عن اعتقادها بأنها مركز للوجود، وتطالع حقيقتها العارية من الزيف والنفاق، المجردة من إحساسها بالتضخم. ومن الممكن أن يقود هذا التكشف المباغت إلى هشاشة صحية مثمرة، هي المحطة الأولى في المراجعة وإعادة التقييم والبناء، في ضوء رؤية الآخرين الأكثر موضوعية واستقلالية ونزاهة من تصورات النظرة الأنوية إلى الداخل، بأحاديتها ونرجسيتها وغرورها.

إن مصر التي "تتحدث عن نفسها" و"تبني قواعد المجد وحدها" في قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم، شيء، ومصر التي تريد قراءة نفسها والتعرّف على واقعها في كتابات زوّارها وروّادها من الرحّالة المبدعين، شيء آخر. وإذا كان الروائي الفرنسي فلوبير، قد أقر صراحة منذ قرابة قرنين، بأن "الشرق يبدأ في القاهرة"، فماذا قال المسافرون الفضوليون من أجيال لاحقة؟

العبارة ذاتها "الشرق يبدأ في القاهرة" اتخذها الأديب الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي (Héctor Abad Faciolince*)، عنوانًا لكتابه الصادر حديثًا عن دار "صفصافة" في القاهرة (**)، بترجمة محمد الفولي. لكن افتتان فاسيولينسي "المعرفي" بالقاهرة لم يمنعه من تشريحها بجسارة وجرأة واقتحام، وربما بقسوة، لكنها قسوة العاشق الذي "ينزع أحجبة حبيبته، واحدًا تلو الآخر".

يسرد فاسيولينسي في كتابه الشيّق، حصاده الروحي لمكابدات شهرين قضاهما في مصر، هما ديسمبر/كانون الأول 1999، ويناير/ كانون الثاني 2000. ويمكن تصنيف مادة الكتاب على أنها دوامات أرخبيل الخلخلة بين "مصر الكتب" التي قرأ عنها، و"مصر الواقع" مثلما رأى. فبين قاهرة المخيلة وقاهرة الحقيقة، كانت الصدمة التي أفرزت هذه "الفضفضة" الكاشفة، ذات الصياغة الأدبية الرفيعة في الآن ذاته.

إن السفر ليس هو التنقل والرحيل فقط، إذ يبدأ السفر الفعلي قبل الرحيل بوقت طويل، حيث التهيؤ الذهني والفانتازي للرحلة. وقد سار فاسيولينسي على نهج فلوبير في الاستعداد للتوجه إلى مصر، ثقافيًّا ونفسيًّا، إلى درجة أنه قلده في إطلاق لحيته قبل الانطلاق: "لن أهذب لحيتي، ستنمو مثل حشائش السافانا في الأميركيتين".

إلى معشوقته، توجه فاسيولينسي محمّلًا بالأشواق والآمال وحلوى التاريخ، إلى أن اصطدم بمرارة الواقع في حلقه وصدره، فقال بتلقائية: "مدينة القاهرة الحبيبة، كنت أحب وجهكِ أكثر قبل أن أراه. عن جسدكِ، لا يمكنني التفوه بشيء حتى الآن، لأن رداء سميكًا وقاتمًا من الغبار يخفيكِ من قمة رأسكِ حتى أخمص قدميكِ، لكني ما زلتُ أرغبُ في الوصول والنظر إلى عينيكِ، ونزع أحجبتكِ وتمرير يدي الفضولية فوق ظهركِ الذهبي، والتحدث معكِ أو عنكِ".

لقد اكتشف فاسيولينسي الفجوة، بل الهوة السحيقة، بين الماضي والحاضر، بين المحكيّ والمشهود، بين سجلّ التاريخ وصفحة الأرض. فآثر العودة إلى الذكريات، ليذوق قضمة من زمن الليالي التي تسبق العيد، فتلك "أفضل من يوم العيد نفسه"، فرهبة الاشتياق أكثر لذة من الاحتفال ذاته، وبماذا يمكن للمرة أن يحتفل في القاهرة الآن؟!

"كان يا ما كان، كان هناك هرم في مصر"، عنوان أحد فصول كتاب فاسيولينسي، فهل "مصر الأهرامات" لا تزال قائمة؟ يزيح فاسيولينسي، في نهاية الألفية الثانية، الكثير من التصورات الساذجة عن إمكانية صياغة الحاضر بسواعد التاريخ، وبناء مجد الواقع بحجارة الآثار، وإن كانت حجارة الأهرام، تلك العجيبة الخالدة، التي لو لم يرها فاسيولينسي مسبقًا في شاشات السينما والتليفزيون لتعاظمت دهشته وهو يراها للمرة الأولى في مصر، لكن الوهم ينتزع عن الواقع قطعًا كثيرة من زينته.

إلى جانب سرقة "المفاجأة" بأيدي "الشاشات"، فهناك أيضًا سرقة المساحة، التي ارتكبها النمو الجغرافي لأكثر عواصم الإسلام كثافة سكانية، بسبب النمو الحضري السرطاني الذي لا تحكمه مقاسات. فقد صارت الأهرام محاصرة بتجمعات سكنية وأبنية وشوارع ومساجد، بل ومحاطة ببؤس المقابر الجديدة، في جوار عظمة المقابر القديمة والتوابيت السحرية.

لنا أن نتساءل مع فاسيولينسي: "كيف ستشعر بالعظمة، إذا كان بائعو أوراق البردى الزائف يطاردونك، ويهجمون عليك أيضًا بأهرام بلاستيكية صغيرة؟!". لقد توصل الأديب المحبط إلى أن "الزيف" و"التقزيم" و"العشوائية" من عناوين المرحلة. إذ يستحيل إخراج الأهرام من إطارها الكريه، حيث المباني الرهيبة التي لا تنتهي، ومطاعم المقليات والتيك أواي والبائعين المخادعين ورائحة الفضلات الحادة التي تسيطر على الأجواء.

أما ذروة الانتهاك والعبثية، فقد وصفها فاسيولينسي صراحة: "شاهدنا اثنين من السائحين الفرنسيين يأخذان قطعة من الهرم، ويبدو أنه طوال قرون ظل النهب قائمًا على هذا المنوال، إذ لا بأس من الاستقطاعات الصغيرة، من هنا أو هناك!".

"مصر ليست مصر"، هذا ما خلص إليه فاسيولينسي بوضوح في رسائله ومعايناته وتدويناته التي اتخذت شكل اليوميات الأدبية المؤطرة بخلفيات تاريخية ومعرفية واسعة. وبتعبير آخر، أقل قسوة، فإن ما يتبقى من مصر هو "مجرد آثار". فما يطلق عليه اليوم "مصر" لا تربطه أية صلة بمصر الكتب، أو مصر التي يبحث عنها الغرب ويحلم بها منذ حملة نابليون في 1798، أو إعلان شامبليون في 1822 أنه تمكن من فك شفرات الهيروغليفية.

هناك شرخ اجتماعي وثقافي، وربما أيضًا عرقي، مع الماضي الفرعوني. ويذهب فاسيولينسي إلى أن الحكام والساسة يتجهون إلى الاستيلاء على هذا الماضي المجيد "لتعويض افتقادهم الحالي لأي مجد"، لكن الجغرافيا والتاريخ ليسا وحدهما ما يُعرّف البلد. فالشيء الوحيد الذي يتشاركه مصريو اليوم، مع القدماء، هو مجرى النيل، مع بعض التغيرات، وخصوبة الدلتا، وقطاع الري المتاح على جانبيه.

هذه الأكذوبة التي يروج لها المسؤولون بالقدرة على امتلاك التاريخ وإمكانية إحيائه، تتسق مع خديعة أخرى يتقصى فاسيولينسي ملامحها، وهي ادعاء مظاهر الإيمان، بأساليب شكلانية، من دون تفهم جوهر المعتقد وتدبر حقيقة الدين. وهي ملاحظة عامة، يتفق فيها مستشرقون وكتّاب كثيرون، ممن كتبوا عن مصر.

من بين تلك المظاهر التي يرصدها فاسيولينسي "زبيبة الصلاة" في الوجوه، مشيرًا إلى ملاحظته (التي يشاركه فيها الكاتب والصحافي الأميركي ماكس رودنبيك)، أن الكثير من السياسيين المصريين قبل ظهورهم أمام العامة "يزرعون" هذه الزبيبة، لكي يصيروا أمام الجمهور "مسلمين صالحين".

ما يتوقف عنده فاسيولينسي من سمات القتامة العامة، لا ينفي إحساسه بالجمال والدهشة والعظمة في بعض المواضع، لكن على سبيل الاستثناء، وفق نظرة فلوبير بأن "الأشياء الرائعة تلمع أكثر في الغبار". فبالنظر من أي مكان مرتفع في القاهرة، يتجلى الحطام والقمامة في الأفنية وأسطح الأبنية والساحات والطرق. ويتناثر الطوب وبقايا الأسوار المنهارة والأكياس والحديد الصدئ والمقاعد منزوعة الأحشاء والحيوانات النافقة، الخ، وفوق هذا الحطام كله يرقد غطاء من التراب والرمال. لكن فجأة، "ينتصب أمامك بكل روعة سور قديم مذهل أو مئذنة ذات التفافات متناغمة أو أبواب فصّلها فنانون عباقرة أو سلسلة من النوافذ البديعة المصنوعة من المرمر".



إن القاهرة القديمة، كادت تتحول، على أيدي إختصاصيي التخطيط العمراني الإيطاليين، إلى مكان حالم، لكن الذي يطالعها الآن عليه أن ينزع نظارة الاشمئزاز عن عينيه لينفض التراب، وينسى الرسائل الرهيبة التي تؤذي الأنوف، والصخب الشيطاني الذي يغتصب الآذان، فوسط "خدر الحاضر" تلمع بعض الأشياء القليلة وسط الغبار.

ويصل فاسيولينسي، ربما بالصدفة، إلى سر أسرار الشخصية المصرية "القدرة الاستثنائية على التحمل". ويتجلى ذلك في عبارته التي جاءت عفوية بسيطة: "يبدو أن القاهريين يعيشون في حالة مزاجية جيدة للغاية، كما لو أن أيًّا من كل الأشياء التي تضايقنا من حر وصخب وتلوث لا تؤثر فيهم، لا تؤثر فيهم حقًّا، فهم يعيشون ويلقون التحية ويبتسمون ويلعبون كأنهم يحتفظون داخل أنفسهم بسر ما، جين سعادة لا يقبل التحول، ومحصن ضد هجمات الواقع".

كتاب الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي، صفعة قاسية على وجه الحاضر، لكنها ضرورية للاستفاقة والنهوض من الكبوة، وإعادة قراءة الذات بمنظور محايد، أملًا في غدٍ واعدٍ طال انتظاره.

 
(*) إكتور آباد فاسيولينسي، روائي وكاتب وصحافي كولومبي، من مواليد مدينة ميديين العام 1958. من أعماله الروائية البارزة "النسيان"، حول حياة ومقتل والده في اضطرابات بالبلاد. حصل على جوائز دولية مرموقة، ومنحته إسبانيا جنسيتها العام 2017 باعتباره أحد أفضل الكتّاب بالإسبانية.
(**) صدر كتاب "الشرق يبدأ في القاهرة" في 280 صفحة من القطع المتوسط عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات في القاهرة، 2018، بترجمة محمد الفولي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024