محمد الماغوط.. شاعر الفرادة

بشير البكر

الإثنين 2021/02/22
عاش محمد الماغوط حياة في الكتابة، وكل ما قام به من نشاط آخر لم يأخذه على محمل الجد، أو يخلص له كما الشعر الذي كان البداية، حيث سجل بصمته الخاصة واشتهر من خلاله كرائد فريد متميز واستثنائي بين شعراء الحداثة، يوازي ما أحدثه من صدمة على صعيد قصيدة النثر ما قام به بدر شاكر السياب على مستوى التفعيلة، بل انه تجاوز كل كتاب قصيدة النثر من جيل الرواد في التأثير على أجيال قصيدة النثر العربية في عموم العالم العربي حتى اليوم. ورغم أن الماغوط توقف شعريا منذ منتصف السبعينيات في القرن الماضي، إلا أن قصيدته بقيت جديدة وتأثيره مستمر، ما يذكر بالدور الذي لعبه جيل الرواد الأوائل في الشعر الفرنسي مثل شارل بودلير.

وكانت بداية الماغوط من فراره إلى لبنان سيراً على قدميه، هارباً من أجهزة مخابرات الوحدة (1958-1961). وهناك كانت أول الشهرة رغم أنه لم يمكث طويلا، وعاد إلى دمشق ليدخل السجن العام 1961، بعد صدور مجموعتيه الشعريتين "حزن في ضوء القمر" (1959) و"غرفة بملايين الجدران" (1960)، عن مجلة شعر التي كان يصدرها الشاعر يوسف الخال. ولعل تعرفه على الشاعرة السورية سنية صالح شقيقة الناقدة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس كان الحدث الأهم في حياته، والتي تزوجها بعد خروجه من السجن في دمشق. وكتبت سنية في مقدمة الأعمال الكاملة للماغوط عن لقائهما الأول "كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت، وعندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة شعر المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب، من دون أن يعلن عن اسمه، ترك المستمعين يتخبطون بودلير؟.. رامبو؟ لكن أدونيس لم يلبث أن أشار الى شاب مجهول غير أنيق، أشعث الشعر وقال: هو الشاعر. لا شك أن المفاجأة أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات. أما هو، وكنت أراقبه بصمت، ارتبك واشتد لمعان عينيه، بلغة هذه التفاصيل وفي هذا الضوء الشخصي، نقرأ غربة محمد الماغوط، ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض". وفي مناسبات كثيرة رد الماغوط الجميل إلى سنية بالاعتراف "سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة، وأكبر من كون، ربما آذاها اسمي فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جداً". كتب على شاهد قبرها "هنا ترقد آخر طفلة في التاريخ". وفي حقيقة الأمر لو أن الماغوط استمر في بيروت، وواصل مشروعه لكان غطى على بقية مجموعة مجلة شعر في حينه، ولكنه لم يكن مكترثا بالنجومية.

توقف الماغوط عن الشعر بعد ديوانه الأخير "الفرح ليس مهنتي" الذي صدر العام 1970، أو أن الشعر توقف عنه منذ منتصف السبعينات. كانت آخر "قصيدة ماغوطية" كتبها ونشرها العام 1976، بعنوان: "آخر كلاب الأثر". ومنذ ذلك اليوم لا أذكر أننا قرأنا له قصيدة حزينة في ضوء القمر. نعم هو رثى زوجته، ورفيقة دربه الشاعرة سنية صالح، حين كانت مريضة بين الموت والموت في باريس في منتصف الثمانينات، لكنه لم يتابع الشعر بعدها إلا على سبيل الحنين، وانشغل في الكتابة للمسرح والتلفزيون والسينما، كما في المقالة الصحافية، وكان بارعا متميزا، وقدم الجديد في كل ذلك.

عهدنا الماغوط في دواويينه الثلاثة صوتاً خاصاً، فطرياً، برّياً، عميقاً، منشقّاً، يتدفق مرارة وسخرية وحكمة، وشراسة بلا حدود. كان يمكن لقصيدة "آخر كلاب الأثر" ان تشكل انعطافة في تجربة هذا الشاعر الثائر على كل القيود، وتنتقل بها من طورها العفوي والفطري إلى ما يتعدى مجايليه من الشعراء الرواد الذين واصلت قله منهم، بينما توقفت الغالبية، وذلك يشكل ظاهرة لم يدرسها النقد.

فمن بين الذين ظهروا ضمن مجموعة "شعر"، لم يستمر سوى أدونيس وأنسي الحاج، بينما توفي البقية أو توقفوا. وحتى إضافات أدونيس لم تتجاوز منجزه السابق الذي كانت ذروته في منتصف السبعينيات، في حين انهمك انسي الحاج في "خواتم" نثرية.

كان الرهان أن يستمر الماغوط دون غيره لأنه صاحب تجربة فريدة، فهو بدأ شاعراً له ملامحه الخاصة والمختلفة. لا يشبه أحداً من كتاب التفعيلة والنثر في الستينيات. ومثل نهر متدفق، نمت على طرفه انهار وسواقي ووديان وبساتين وقرى وحيوات شعرية كثيرة، لكنه ظل صوتاً خاصاً، نافراً من النبع الى المصب. يقرأه المرء فيخرج مجروحاً ومسكوناً بالشجن والعذوبة. نتعمد نسيانه حين نكتب فنتذكره رغماً عنا. تداهمنا صوره الشعرية بقوة، لها سطوة واغراء كتابات الشعراء الكبار الذين أثروا في الحركات الشعرية بلا حدود. كثيرون حاولوا أن يصبحوا الماغوط لكنهم فشلوا، لأن النسخة الأصلية لم تكن قابلة للتقليد او التزوير. لقد بقي وحيد حالاته وجنونه الخاص .اقترب منه الجميع، لكنه بقي على مسافة حتى من اقرب الاصدقاء اليه. كنا نحبه ولا نكف عن تلاوة قصائده وتداولها، نحن الشعراء الشباب في سوريا السبعينات، لكننا لم نستطع الاقتراب منه. نحييه ويحيينا بموده، وكل يعبر في اتجاه. لم يكن يريدنا أن نختلط معه، كان يخشى الألفة. وقد أسرّ لبعضنا انه يخاف من أن تتكون من حوله مجموعة، لأن بداية هذا الطريق تقود الى تكريسه وتحويله الى ايقونة ومدرسة، وربما مزار.

لقد كان يتهيب من احتمال أن يضعه الآخرون في إطار، ولو على سبيل التبجيل. تعالى، عن وعي أن يشكل من حوله مريدين ونقاداً. ورفض عن سابق إصرار، أن يصبح أباً، وأن يصير له أبناء بالتبني الشعري. ليس لأنه بلا عاطفة شعرية، بل لأنه ضد المدرسية والتصنيم والنمط، وعلى قناعة بأن الكتابة مسألة ذاتية قبل كل شيء، ولا يمكن لنا أن نخضعها لأي قانون. وبذلك أفاد الماغوط بنظرته هذه الأجيال الشعرية اللاحقة لأنه ساعدها على أن تكبر وتبلغ سن الرشد بوعيها الخاص، من دون أن تتعكز على ظهور الآباء. لعب الماغوط في مساحات شاسعة، بلا حدود ما بين العادي الهارب من القول، والممتنع الذي لا تأويل له حتى في الأحاديث الصحافية التي أدلى بها في سنواته الأخيرة عندما قرر أن يعتزل العالم في بيته مثل "صفافة خضراء" بعيداً من الرداءة في دمشق.

ثمة ما يميز الماغوط عن غيره من الشعراء، هو انه لم يكن على ألفة مع تنظير الكتابة، ولم يُعرف عنه رأي معين حيال الكتابة، إلا بعض الأحاديث الصحافية العابرة في وقت متأخر، ولأنه لم يذهب الى الجامعات ليدرس نظرية الابداع، ولم يسافر الى خارج سوريا إلا بهدف العمل والعلاج، فإنه بقي وفياً لحسه الصافي، ودفقته الشعورية الخاصة. لكنه لم يتكرر على هذا المستوى، ولم يضارعه أحد، لا من مجايليه، ولا من الشعراء اللاحقين، وحتى حين انضم الى مجموعة "مجلة شعر" في بيروت الستينات، فإنه كان يشكل سرباً لوحده. صحيح انه عايشهم سياسياً وحياتياً، لكنه لم يتأثر بهم ولا بنظريات بعضهم على مستوى الإبداع، ودور الكتابة في التغيير، وتعبّر عن ذلك الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي، في معرض حديثها عن الحداثة الشعرية العربية، وهي التي كانت قريبة من تجربة مجلة "شعر": "الماغوط كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها". عاش في بيروت ودمشق، لكنه ظل أقرب الى منطقته الخاصة مدينة السلمية الواقعة على مشارف البادية، وهناك بدأ وعيه على معنى التمرد والانشقاق.

أعتقد ان الماغوط توقف عن الكتابة في اللحظة التي شعر فيها، انه سوف يعيد انتاج نفسه، في حالة وظرف مختلفين. لقد كان بوسعه أن يواصل الكتابة بالشكل والمضمون ذاته، لكنه من الصنف الذي تحدث عنه رينيه شار، الذي "لا يقبل الكتابة إلا اذا أتته من تلقاء نفسها كحالة حب جارف". ومثلما كتب بعفوية منذ البداية، فإنه كان حريصاً على أن لا يكرر الحس الأول تجاه الصورة الشعرية التي كانت رأس ماله.

حاولتُ أن أحاوره حين انفردت به في باريس العام 1985، وكان حينها يرافق زوجته خلال علاجها من مرض السرطان، لكن الظرف لم يكن مناسباً كونه كان منصرفا كلياً إلى ما تعانيه سنية، ولا يريد لأحد أن يشاركه تلك الحالة أو يفتح قلبه. وكنت أحس أن أي حوار في الشعر أو في الحياة لا بد أن يأخذه إلى زوجته التي رافقته منذ وقف في لقاء شعر في أول الستينيات، لكنه لم يُخفِ عني بعض الآراء حيال الشعر العربي، وعلى عكس انطباعي أنه بات بعيداً من الكتابة الابداعية وتفرغ للمسرح منذ أن توقف عن الشعر، فقد وجدته متابعاً، وتحدث عن الشعر في سوريا ولبنان وفلسطين من دون إصدار أحكام إلا في ما يخص الشعراء المكرسين. وكانت نظرته للقصيدة التي يكتبها الشباب إيجابية جداً، وتحدث عن عدد من الشعراء الشباب بتقدير وحب. وكانت الصورة المتداولة عن الماغوط أنه انقطع عن متابعة عالم الكتابة والنشر، وأخذه المسرح بعيداً من القراءة، لكني فوجئت بمثقف واسع الاطلاع، وهذا ما عززه لي صديقه الأثير الكاتب زكريا تامر الذي رافقه من قرب منذ الستينيات، بل كان أقرب الكتّاب إليه. ولزكريا شهادة بالماغوط تنصفه مما يشاع عنه من يأس من الثقافة واستغراقه في المسرح وكتابة المسلسلات في سنواته الأخيرة. ورأي الماغوط في كتابته المسرحية انه يعتبرها نقدية، ودخل في خصومات مع دريد لحام حين كان يريد توجيه بعض النصوص، ويضرب مثلاً على نص المهاجر الذي أخرجه المخرج التقدمي اللبناني يعقوب شدراوي.

وفي باريس التقيت الماغوط مرات عديدة، وتجولنا في أحياء باريس القديمة التي أحبَّ منها الحي اللاتيني على نحو خاص. وكان يتوقف في كثير من الأحيان ليتأمل الشرطة في الشوارع ويقارنهم بشرطة بلادنا الذين يبثون الخوف، وقال لي أكثر مرة "أنا لا أرتجف من البرد أو الجوع، بل من الخوف.. الخوف يضرب الركبتين". وبالإضافة إلى ولع الماغوط بالطعام الفرنسي، استهوته الأناقة الباريسية، وكلما التقيته وجدته وقد ارتدى ملابس جديدة من أبرز الماركات، وكان يحدثني عنها بفرح الطفل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024