رشيد بوجدرة يخرج من التاريخ مشياً على يديه

عبد الدائم السلامي

الخميس 2017/08/17
الحقُّ أني لم أفاجأ كما فوجئ الكثير من القرّاء، بما ورد على لسان الكاتب رشيد بوجدرة في حواره الضاجّ بامتداح الذات وشتم الآخرين الذي نشره مؤخّرا موقع TSA، لأنّ رشيد بوجدرة "الراهن" إنما هو يُحيلُ على ظاهرة ثقافية عربيّة بامتياز، وصورتُها أنّه بقدر ما تسعى المجموعة الاجتماعية إلى المحافظة على رمزيّة مبدعيها وتثمين مُنجَزِ ماضيهم يسعون هم إلى أن يُطفئوا بألسنتهم ما في ذاك الماضي من لمعانٍ إبداعي فلا يتركون شيئا من أثر لهم جميل، وإذا هم يمحون تاريخهم بوهم كذوب يُوحي لهم بأن الحكمةَ شيخوخةٌ، وأنّ المبالغةَ في العمر هي مبالغةٌ في فهم الواقع، وأن مَعينَ إبداعهم لا ينضب، لا بل وأنّ النهاياتِ بكلّ ما فيها من ضعفٍ جسدي ووهنٍ فكريّ إنما هي لا تعنيهم البتّة. 

لقد تجلّت هذه الظاهرة في تونس عبر شخصية المفكّر الإسلامي الراحل محمد الطالبي، حيث فاته أن يعي بأن للفكر عمرًا، وبأنّ للبحث عمرًا، وتحوّل في أيامه الأخيرة إلى مسخرة تلفزيونية، يتلهّى الناس بآرائه التي دعا فيها إلى إباحة البغاء، ويضحكون من بلاهة أقواله في الشريعة وهو الذي عرف في شبابه الفكري برصانة التحليل وإبداعيته. ويبدو أنّ هذا هو المصير نفسه الذي يتدحرج صوبه الآن كثير من مبدعينا الأجلاّء على غرار محمد الشرفي ومحمد محجوب في تونس، وجابر عصفور وصلاح فضل في مصر، وبرّادة في المغرب والغذّامي في السعودية، وغيرهم كثير من شيوخ الكتابة في أقطارنا العربية.

ويبدو لي أن تصريحات بوجدرة جاءت ضمن هذا السياق الذي تتحرّك فيه ثقافتنا العربية، وكانت محكومة بأمريْن متعاضديْن معًا: أوّلهما أفولُ نجمه الإبداعي بسبب ظهور كُتّاب شباب لهم إضافات حقيقية في مجال السرد، جعلت المنابر الإعلامية الجزائرية والعربية والعالمية تتناسى بوجدرة وتحتفي بهم، على غرار كمال داود وأمين الزاوي وسعيد خطيبي وبشير مفتي. ويتجلّى ثاني الأمريْن في سعيه إلى التعويض عن ضمور إبداعيته بحضور له قويٍّ خارج النصّ، أي في فضاء المعارك الدونكيخوتية. وقد حصّن نفسَه بإعلان صداقات له كبيرة مع رجال السلطة (ومنهم شقيق الرئيس بوتفليقة) ومع بعض قادة الإسلاميين مثل "الشيخ نحناح" وكأنّ صداقة هؤلاء مانحة للاعتراف به ومانعة لنسيانه. وقد لخّص سعيد خطيبي هذه الحال بقوله: "لم يعد هو نفسه الذي كان يعرفه القارئ من سنين، صار يخجل من مُعارضة الواقع، يتحاشى مواجهة ما حصل من انتهاكات في دستور البلد، ويُساير أهواء المرحلة، كان يمكن للرّجل أن يصمت، بدل أن يتخذّ موقعاً مقرباً من السّلطة، احتراماً لتاريخه ولنصف قرن قضّاها في الكتابة والإبداع، لكنه تورّط في التّقرّب من وزراء الثّقافة، وفي التّحلّق حول طاولة السّلطة".

ولا شكّ في أن ما صار إليه رشيد بوجدرة من إسفافٍ ميّز تصريحاتِه الأخيرةَ -تلك التي قال فيها إنّ "أمين الزاوي كتب بالفرنسية المليئة بالأخطاء، ولغته ضعيفة جداً، وبوعلام صنصال حاقد على الجزائر بشكل رهيب". حتى إنه أصبح يقذف الثورة ويقول إن كل ضباط الجيش الجزائري من النازيين وهذا خطير. كمال داود أيضا في رواية "ضد الغريب" يكتب عن كامو ويبرر موقفه الذي كان ضد استقلال الجزائر"- إنّما هو أمرٌ يعود في أغلبه إلى هشاشة شخصية المثقّف العربي وكثرة كدماته النفسية والاجتماعية. وهي هشاشة وكدمات، تكشف عنها تغيّرات مواقفه حسب المصلحة الشخصية أو حسب الإيغال في العمر والخوف من الموت. من ذلك أنّ أغلب الملحدين العرب الذين أكلوا الخبز بفضل تسويق إلحادهم، عادوا إلى الله لما اهترأت أجسادُهم وقَرُبت ساعاتُهم، عادوا مؤمنين أفذاذًا، وهو ما يُحيلُ على اضطرابهم النفسيّ وعدم ثقتهم في كلّ ما أعلنوا عنه من مواقف سابقة كانت سبيلهم إلى الشهرة في أوطانهم وفي خارجها، ودليلنا في حالة رشيد بوجدرة هو أنّه عاش مُلحدًا ومصرًّا على إلحاده (وهو حقٌّ تضمنه له حرّيتُه الشخصية)، وقد عبّر عن ذلك في كثير من المرات بقوله إنه "ملحد، ولا يؤمن بوجود الله، ولا يؤمن بمحمد رسولاً، بل يعتبره رجلاً ثورياً". غير أنه عاد مؤخَّرًا ينفي إلحاده بقوله "أنا مسلم، وأحترم الإسلام، ورواياتي وكتاباتي تشهد على ذلك". ويقول في حواره الأخير: "أنا مشكلتي ليست مع الإسلام بل مع المنافقين، شخصيا أعتبر القرآن الكريم أرقى كتاب سماوي وشخصياً أقرأه مرتين في السنة على الأقل". قال هذا ولم يوضّح للقارئ مَن هم المنافقون، ولا ندري أقال هذا بسبب خوفه من طيش رصاصِ الإرهابيّين أم قاله طمعًا في مصلحة ما معهم.

لا أحد ينفي عن رشيد بوجدرة إسهامَه المميز في مجال الكتابة الروائية الجزائرية (خصوصاً ما اتصل بجُرأته على تسريد الثالوث المقدّس)، فقد كان "يعتبر ترمومتر الأدب الجزائري، ننظر للبلد من كتاباته ومن تصريحاته، كان بوصلة لفهم توجّهات تاريخ مُعاصر". غير أنّه لا أحد أيضا يستطيع أن يدافع الآن عن مواقف بوجدرة الأخيرة التي بدا فيها وكأنه قد امتلأ بالهذيانات وراح يهاجم كلّ شيء: أعداءَه وأصحابَه، ماضيه وحاضر الناس، بحقّ ومن دونه، وكأنّه يدفع بحتمية نهايته إلى الأمام ناسيًا أنها تتدحرج أمامه مثل كرة الثلج مانعةً عنه رؤيةَ حقيقته: كاتبٌ يخرج من التاريخ مشيًا على يديْه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024