"وعد" فريدريش دورنمات: اﻷدب البوليسي الذي تجاهلناه

وجدي الكومي

الخميس 2018/09/06
لم تنته قراءتي لرواية "الوعد"، للروائي السويسري فريدريش دورنمات، الصادرة ترجمتها حديثاً في القاهرة بترجمة سمير جريس، ببساطة. إذ إن الطاقة الكامنة للرواية، التي صدرت  للمرة اﻷولى العام 1958، ما زالت تعطلني عن محاولة الكتابة عن الحكاية أو وضع تصور لمقال عنها. وهذا ما يحدث حينما تقرأ عملاً شهيراً وكبيراً، تناولته السينما مرات، سواء السينما اﻷلمانية أو اﻷميركية. إذ تحولت رواية الوعد إلى فيلم من بطولة جاك نيكلسون. وألهمت الرواية أيضاً، صنّاع السينما اﻹيطالية والمجرية واﻹنكليزية، واﻷلمانية طبعاً.


أعني بالطاقة الكامنة للرواية، سرّ جمالها الخفي، اللغز المحير الذي يجذبك لمواصلة قراءة عمل، وأنت ﻻ تدري بالضبط، ما الذي يجذبك فيه: الحبكة؟ اﻷسلوب؟ حساسية الحكاية؟ الرسالة المتضمنة في قلب الكاتب، والتي يمنحها لقارئه قطرة قطرة عبر صفحات العمل؟

بالتأكيد، مشاعر كثيرة تدفقت في قلبي خلال قراءة عمل لفريدريش دورنمات، الذي ينتمي إلى بلد زرته مرات، سواء عابراً مشاركاً في مهرجان أدبي ذات مرة، أو مقيماً إقامة غير دائمة في بيوت اﻷدب. لكن دورنمات أيضاً هو المسرحي الشهير، الذي كلما حضرت سيرة سويسرا في مناقشة عن أدباء أوروبا وتاريخهم اﻷدبي، تذكرناه، هو وماكس فريش.

بدأتُ قراءة "الوعد"، مهيئاً نفسي لقراءة عمل ينتمي إلى اﻷدب البوليسي الذي ﻻ أحبه. لغز، يسعى محقق أو تحرٍّ لحله. هكذا، ببساطة هي الفكرة السائدة عن اﻷدب البوليسي في واقعنا العربي اﻷدبي، وإن كانت هذه الأفكار تتغير أحياناً في أعمال روائية قديمة، إلا أن ما كرسته الكاتبة اﻹنكليزية أغاثا كريستي، رسّخ هذه الفكرة، وتركها تخيّم على تصوراتنا. حتى بعدما ظهر ستيفن كينغ، وتحولت أعماله إلى أيقونات سينمائية، ظل اﻷدب البوليسي حبيس تصوّرنا القاصر عنه.

في "الوعد"، كاتب بوليسي يرتحل إلى مدينة سويسرية ﻹلقاء محاضرة عن اﻷدب البوليسي، لكنه لا يلقى اهتماماً من الجمهور. هكذا يستهل دورنمات روايته، في إشارة بكائية ربما لعدم اهتمام القراء بفنه العظيم، إذ يومئ دورنمات إلى أن بطله – أو هو نفسه- يُفاجأ بتزامن محاضرته مع محاضرة لناقد يتحدث عن أعمال غوته، في إشارة أخرى إلى صراع دورنمات النفسي مع أساتذة اﻷدب اﻷلماني الذين لم ينسحب ظلهم مطلقاً رغم مرور قرون على رحيلهم.

لكن هذه اﻹشارات السريعة سرعان ما تتراجع لصالح الرواية التي تبدأ، إذ يلتقي بطل الرواية بلواء في الشرطة السويسرية، هذا اللواء نتعرف معه على حدث الرواية الرئيسي.. الفتاة التي تقتل، والضابط "متى" الذي يبحث عن قاتلها، وﻻ يكتفي بالقبض على البائع المتجول "فون جونت" الذي كان ماراً بالصدفة بجوار موقع الجريمة، إذ يحاول حتى نهاية صفحات الرواية العثور على القاتل الحقيقي، بدلاً من البائع الذي تتجه إليه الشكوك في الرواية. لكننا بعد الثلث الأول من العمل (الصفحة 106)، يفاجئنا دورنمات بأنه قد انتحر، والرواية ما زالت مستمرة، أي أن معضلة البحث عن قاتل الطفلة ما زالت مستمرة.

يقطع "متى" وعداً على نفسه بالعثور على القاتل، وترتاح اﻷم حينما يُلقى القبض على البائع المتجول، لكن الضابط "متى" ﻻ يرتاح. تبدو الرواية كأنها قد انتهت، فما الذي يجعلها تستمر من الصفحة 106 وحتى الصفحة 230؟

إنها، مجدداً، تلك الطاقة الكامنة، اللغز العجيب المحبب الذي يغرزه دورنمات بهدوء وروية في قلوبنا بينما ندلف إلى عمله. البساطة، أو روح دورنمات الشفافة، قدرته العالية على النفاذ إلى قارئه. هذا السر هو بالتأكيد قوة الحوارات التي زادت من حيوية العمل، فجعله يعيش هذه السنوات الطوال، وما زال قادراً على إدهاش قارئه. هناك صفحات وصفحات من الحوار بين الضابط "متى"، وأهل القرية الذين يرغبون في تسلّم البائع المتجول ليقتصوا منه بأنفسهم. وصفحات وصفحات بين الضابط متى، وطبيبه النفسي، حيث تتجلى مقدرة دورنمات الهائلة على الوصف والتحليل، والنفاذ إلى النفس اﻹنسانية، والخروج بمعانٍ مدهشة تحمل الرواية وتمنحها الحياة، وتجعلنا نتابع التفاصيل واﻷحداث.

في "الوعد" هناك حوارات دائمة بين أبطال الرواية. تبدأ بحوار بين كاتب الرواية الذي ذهب ﻹلقاء محاضرة، ولواء شرطة يدعى "الدكتور هـ" قائد شرطة زيوريخ السابق، الذي يتسلم الحكي ويصبح هو الرواي العليم، ويمنحنا أدق التفاصيل عن "متى" ومحاولاته للوصول إلى القضية. سر هذه الرواية وحيويتها الهائلة تكمن في أن دورنمات يحول أداته الرئيسية، أي الحوار، إلى هيكل الرواية العظمي، الذي يحمل اﻷحداث، والحق أن هذا ليس غريباً على كاتب مسرحي في اﻷساس. ولعل الحوارات، التي يتهرب منها معظم الروائيين، هي التي تكشف قوة الكتابة عند الروائي، ولنتذكر أن غالبية أعمال نجيب محفوظ تنهض على الحوارات. وهنا، في "الوعد"، نتمتع باللغز العجيب الذي يجعل الرواية جميلة، ونتابعها حتى صفحاتها اﻷخيرة، حينما ينكشف السر ونتعرف على قاتل الفتاة الحقيقي.

لكن قبل ذلك، يثير دورنمات قضايا أخلاقية في طريقه إلى حل معضلة الجاني. ومنها، أن في أكثر البلاد تقدماً، ربما تكون العدالة معطلة، وربما يستعجل رجال شرطتها الحل، والركون إلى أسهل اﻻفتراضات، بدلاً من إرهاق أنفسهم في البحث والتحري. ويقول دورنمات على لسان قائد الشرطة، الذي يلوم مرؤوسه على طول مدة استجواب البائع المتجول: آمل أن تكونوا قد تصرفتم على نحو صحيح – زمجرت بهذه الجملة ﻷن التحقيق استسغرق أكثر من عشرين ساعة، وهو مخالف بالطبع للتعليمات.

يطرق دورنمات أيضاً فكرة التنمر العائلي، الذي يجعل أم القاتل الحقيقي تتستر على ابنها، لخوفها الهائل من شقيقتها. كما ينحاز إلى ضرورة التدقيق الشديد والبحث المتواصل وفحص كل الفرضيات، أملاً في الوصول إلى العدالة، العدالة التي لم تتحقق مطلقاً حتى مع محاولات الضابط "متى". فقد نصب الضابط فخاً للقاتل، عندما استأجر محطة وقود، واستخدم ابنة صديقته الفتاة "آنا ماري" طُعماً للجاني، مطارداً فرضيته بأن الجاني سيمرّ ذات يوم بمحطة الوقود ويحاول استدراج الطفلة لارتكاب جريمة قتل جديدة.

"الوعد" رواية عن هاجس العدالة غير المتحققة، وعن الانحياز اﻷخلاقي اليوتوبي إلى مدينة فاضلة. وبالتأكيد، لم يكن دورنمات مهموماً، خلال كتابة الرواية، إلا بالفكرة الرئيسية للفن الذي يمارسه، أﻻ يكون صوته زاعقاً، وأن يمرر ما يشاء من رسائل بخفة يد الفنان الكبير.

(*) صدرت ترجمة "الوعد" عن دار الكرمة للنشر في القاهرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024