معراج بولس إلى السماء الثالثة

محمود الزيباوي

الجمعة 2021/10/08
في النشيد الثاني من "الجحيم"، يشير دانتي، إلى رحلة بولس الرسول إلى العالم الآخر، فيقول: "ثم ذهب هناك الإناء المختار، ليحمل إلينا الثقة في ذلك الإيمان، الذي هو بداءة نحو طريق الخلاص". ونجد في إحدى رسائل بولس كلاماً مبطّناً عن هذه الرحلة شكّل أساساً لنص منحول يُعرف بـ"رؤيا بولس لنهاية العالم".

بحسب الرواية التي وردت في سفر "أعمال الرسل" في الإنجيل، كان لبولس اسم عبري هو شاول (1: 13)، ومسقط رأسه طرسوس، في كيليكية، حيث نشأ وتعلّم. كان من اليهود الذين حظوا بالرعويّة الرومانية، وتلقّى في طرسوس تعليماً يهودياً عميقاً، ثم أُرسل إلى أورشليم ليدرس الناموس، في زمن نشوء المسيحية، وحارب هذه الدعوة الجديدة، وشهد محاكمة استفانوس، شهيد الكنيسة الأول.

اقتيد استفانوس خارج المدينة ورُجِم، وخلع الشهود ثيابهم "عند رجلَي شاب يُقال إنه شاول" (7، 58)، مما يعني أن شاول كان من أصحاب النفوذ، وأنه من الذين ساقوا التهم ضد استفانوس وحكموا عليه بالإعدام. شارك شاول في اضطهاد المسيحيين الأول إيمانا منه بأنهم من المارقين الخارجين عن اليهودية، ولم يكتفِ بمهاجمتهم في أورشليم، بل عمد إلى ملاحقتهم خارج المدينة، خدمةً منه للناموس اليهودي. في الطريق إلى دمشق، "أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتا قائلا له: شاول، شاول لماذا تضطهدني". فسأل: "من أنت يا سيد؟"، فأجابه السيد: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"، "قم وادخل المدينة فيُقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (9: 3-5). جعل المسيح من شاول، "إناءً مختاراً" ليحمل اسمه أمام أمم وملوك (9: 15)، وأضحى بعدها بولس "رسول الأمم"، وتجوّل مبشّرا بالمسيحية في آسيا الصغرى، وبلغ أوروبا، وكان له الأثر الأكبر في تأسيس الكنيسة وتثبيت ركائزها.

في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، يقول بولس: "أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة. أفي الجسد؟ لست أعلم، أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة. وأعرف هذا الإنسان: أفي الجسد أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم. أنه اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها"(9: 2-4). بحسب أهل التفسير، يقصد بولس بهذا الكلام نفسه، ولا يذكر أنه هو اتّضاعاً، ويعلن عن رؤيا رآها قبل 14 سنة من كتابة هذه الرسالة، وذلك عند اختطافه إلى السماء الثالثة، من دون ان يحدّد إن كان هذا الاختطاف بجسده أم بروحه فقط، والسماء الثالثة هي التي يحيا فيها الملائكة والقديسون، أي الفردوس، وهو مكان يسكنه الأبرار في انتظار يوم الدينونة، وقد سمع هناك كلاما يعجز الإنسان ان يعبر عنه لأنه فوق الكلمات، وهي أعلى من كل تصوّرات البشر.

شكّل هذا الحديث أساسا لرواية طويلة دوّنت باليونانية في منتصف القرن الثالث، وصلنا منها نص منقح يعود إلى نهاية القرن الرابع، وقد رفضت الكنيسة باكراً هذا النص الرؤيوي وصنّفته ضمن الأعمال المنحولة، غير أنه لقي رواجا كبيرا، كما يُستدلّ من النسخ العديدة التي وصلتنا منه باليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية والإثيوبية. ظلّ هذا النص حياً في القرون الوسطى، وترك أثرا جليّاً في نصوص رؤيوية تعود إلى تلك الحقبة، كما ترك أثراً كبيراً في الفن الكنسي تمثّل بشكل أساسي في المشاهد التأليفية التي تصوّر الدينونة الأخيرة. وهذا النص منشور في ترجمة عربية من توقيع إسكندر شديد، ضمن كتاب "الرؤى المنحولة" الصادر سنة 1999.

الطريق إلى السماء الثالثة
ينطلق كاتب هذا السفر المنحول من كلام بولس، ويعلن أنه عُثر عليه بإرشاد إلهي في صندوق رخامي مدفون تحت التراب في منزل بولس في مدينة طرسوس، يوم كان يسكنه "رجل محترم" لا يذكر اسمه. ظهر ملاك ليلاً لهذا الرجل، وأمره بأن يقلب أسس المنزل ليذيع ما سوف يجده فيها، فظن الرجل ان الأمر كان مجرد هلوسة، فعاد الملاك، وجلده في المرة الثالثة، فأطاع الأمر، ووجد صندوقاً ضم كتابات وحي بولس، إضافة إلى نعليه اللذين جال بهما الأرض. في مقدّمة هذه الرؤيا، يتحدّث بولس عن ثورة قوى الطبيعة على الإنسان الذي أخلّ بنظامها بسبب خطاياه وآثامه المضاعفة. تحتجّ الشمس، ويحتجّ من بعدها القمر والنجوم، ثم يهتف البحر طالباً من الله أن يسمح له بأن يغمر العالم بأسره، وتعلن الأرض عن تضرّرها، وتقول لخالقها: "ما عدت أريد أن أقدّم لأبناء البشر خيراتي وثماري، دعني أبيد جودة ثماري".

بعد هذه المقدمة، يتحدث بولس عن ملائكة البشر الذين يقدّموا لله "ما يفعله كل انسان من الصباح حتى المساء خيراً أو شراُ"، ثم يستعرض طبقات هؤلاء الملائكة، وهم تباعا رسل الزاهدين، ثم رسل البؤساء، ثم ملائكة البر وملائكة الكفرة. يقول الملاك لبولس: "اتبعني لأريك المكان الذي يسلك إليه الأبرار بعد موتهم، بعد ذلك سأحملك إلى الهاوية لأريك نفوس الخطأة والمكان الذي يُساقون إليه بعد موتهم". هكذا يرى بولس ملائكة بلا رحمة وبلا شفقة، "من شعرهم تتعالى شرارات نار، ومن فمهم أيضا"، وهم الملائكة المولجون بالكفرة "الذين لم يؤمنوا بعون الله". ثم يرى ملائكة يظهرون كثيراً من الرحمة، وهم الملائكة الذين "يُرسلون إلى نفوس الأبرار لإرشادها في ساعات الضيق، الأبرار الذين آمنوا بعون الرب".

يطلب بولس من الملاك رؤية النفوس عندما تغادر العالم، فيردّ ويقول له بأن ينظر إلى أسفل نحو الأرض. يرى بولس كل شيء عدماً، ويبكي ألماً، ويطلب من جديد "رؤية نفوس الأبرار والخطأة ومعاينة طريقة خروجها من الجسد"، وينظر إلى الأسفل، ويرى العالم بأسره، "والبشر كل شيء، عدماً". ثم يشهد رجلا من الأبرار على وشك الموت، ويرى كلّ الأعمال التي أتمّها باسم الله، ويدرك أنه أثمر ووجد تعزيةً واطمئناناً.

إثر هذه الرؤيا، يتعرّف بولس إلى الملائكة القديسين والملائكة الشياطين، ويقوده ملاكه إلى الجحيم حيث يُرسل الخطأة إلى العذابات وتُترك هناك إلى يوم الدينونة، ثم يحمله إلى السماء الثالثة، يضعه على عتبة بابها. يجتاز بولس أبواب الجنة، ويلتقي أوّلا بأخنوخ، السابع من آدم، كاتب العدالة الذي رفعه الله قديما "لكي لا يرى الموت" (عبرانيين 11، 5)، ثم يلتقي بإيليا، النبي الذي نقله الله إلى السماء "في مركبة من نار" (2 ملوك 2، 11).

ينزل الملاك ببولس من السماء الثالثة إلى الجلد، ثم يقوده إلى ما فوق أبواب السماء، ويريه نهراً عظيماً يغسل الأرض كلها، وهو النهر الذي تقوم عليه أسس السماء. بعدها يسير الملاك ببولس إلى أرض الميعاد، وهي الأرض التي ستظهر بعد دمار الأرض الأولى في يوم الدينونة. يطوف بولس بعينيه بهذه الأرض ويرى نهر لبن وعسل، مع أشجار ملأى بالثمار عند ضفتيه، ثم ينتقل إلى مدينة المسيح التي يحدّها اثنا عشر بابا وتحيط بها أربعة أنهر. في وسط هذه المدينة، تقوم عروش الذين "جعلوا من أنفسهم بسطاء القلب من أجل الربّ الإله"، ويرتفع مذبح عظيم يقف أمامه النبي داوود منشداً ومسبّحاً.

نهر النار
من مدينة المسيح، يمضي الملاك ببولس إلى نهر النار ليريه نفوس الكفرة والخطأة. يتعرّف الزائر الى طبقات هؤلاء وأصنافهم، ويتنهّد ويبكي. تنفتح السماء، وينزل رئيس الملائكة ومعه كل جند الملائكة، فيستغيث به الخطأة طالبين رحمة خالقهم. يسمع بولس هذه الاستغاثة، ويقول: "ربّي وإلهي، أشفق على ما خلقت، أشفق على أبناء البشر، على الذين صنعتهم على صورتك". يحلّ المسيح وعلى رأسه تاج، ويعلو صراخ سكان نهر النار، فيوبخهم المسيح، ثم يقول لهم: "والآن، ولأجل ميخائيل رئيس ملائكة عهدي والملائكة الذين معه، ولأجل بولس حبيبي الذي لا أريد أن أُحزنه، ومن أجل إخوتكم الذين في العالم الذين يقدمون القرابين، ومن أجل أبنائكم الذين أجدهم أوفياء لوصاياي، وخصوصا من أجل رأفتي الخاصة، أمنحكم أنتم كلكم الذين في العذابات راحة ليلة ونهار لتنتعشوا، وسيكون ذلك إلى الأبد، اليوم الذي قمت فيه من بين الأموات".

وعد المسيح أهل نهر النار بأن يريحهم من العذاب يوم الأحد، فصاحوا كلّهم: "ان يوم انتعاش واحداً أفضل بالنسبة إلينا من كلّ مدة حياتنا على الأرض"، فحنق عليهم الملائكة الشياطين، وقالوا: لقد نلتم للتو حظوة عظيمة بحصولكم على الانتعاش خلال ليلة ونهار، بفضل بولس حبيب الله الذي نزل إليكم".

الدخول إلى الجنة
تنتهي هذه الرحلة في الجنّة "حيث ارتكب آدم وحواء الخطيئة". يدخل بولس مع الملاك هذه الجنة، ويرى النهر الفيشون الذي يقطع كل ارض الحويلة في الجزيرة العربية، ونهر جيجون الذي يقطع كل أرض مصر وأثيوبيا، ونهر دجلة الجاري نحو أشور، ونهر الفرات الذي يسقي أرض ما بين النهرين. يتقدّم الزائر، ويرى شجرة جذورها تُجري ماءً تشكّل نبع الأنهار الأربعة، وهي الشجرة التي ارتاح عليها الروح في بدء الخليقة، ومنها تتدفق المياه حين تهبّ الروح. يأخذ الملاك بيد بولس ويقوده إلى شجرة معرفة الخير والشر التي أكل من ثمرها آدم، فدخل الموت العالم. ثم يقوده إلى شجرة ثالثة ترتفع في وسط الجنة، ويقول له: تلك هي شجرة الحياة.

على مقربة من هذه الشجرة، يلتقي بولس بمريم العذراء، ثم يلتقي ببطاركة العهد القديم، إبراهيم وإسحق ويعقوب، وبعدها بأبناء يعقوب الاثني عشر. ثم يلتقي موسى، ويجده حزيناً باكياً بسبب تشتّت كل النعاج التي رعاها. تتواصل هذه اللقاءات والأحاديث مع الأنبياء الكبار أشعيا وإرميا وحزقيال، ثم مع لوط وأيوب ونوح، وفي الختام مع إيليا وتلميذه أليشع، ويجمع الكلّ على مباركة "حبيب الله" بولس الذي جاء بشعوب عديدة إلى الإيمان.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024