محمد صبحي
في زمن يشبه زماننا، يعصف التغيّر المناخي بالعالم. يرتفع مستوى سطح البحر، وتغرق القارات في الماء. فقط، بلد وحيد، يشبه كثيراً بريطانيا، استطاع أخذ احتياطات النجاة وإنقاذ نفسه: حاجز خرساني هائل يلتف بطول سواحل البلد الجزيرة لمسافة 10 آلاف كيلومتر، يمتصّ قوات البلاد ويعهد بها إلى وظيفة غير منتجة على الحدود. إنه الجدار، كما لو خرج بهيئة محدّثة من قلب "لعبة العروش". تتطلب مهمة حراسته وصيانته 200 ألف شخص يومياً، ولذلك يُفرض التجنيد الإجباري على عموم شباب البلد من الجنسين. سنتا خدمة عسكرية على الجدار يلتزم بتأديتها كل شاب وفتاة، في ظل ظروف غير إنسانية، وهو عمل شاق وعقيم يطبع كل أشكال الحياة. الضحية الأولى لهذا الواجب الوطني هي الإيروتيكية، إذ يصعب تمييز الرجال والنساء الصغار في ملابسهم الموحّدة. تستقر معارك الجندر، تحت تلك الظروف، مثل هدنة حرب. تهمد الرغبة داخل النفوس الضجرة، فيعزف أغلبية السكان عن المجيء بمزيد من الأطفال إلى عالم يعتبرونه فاشلاً تماماً.
كل ذلك يرويه كافاناه (اسمه الأول، جوزيف، يُذكر في الرواية متأخراً وبصورة عرضية، ربما رغبة من لانشستر في إخفاء أصداء بطل فرانز كافكا، جوزيف ك.). جوزيف كافاناه، مجنّد طازج في الخدمة على الجدار، أو كما يسمّونه "مُدافع"، لديه مهمة واحدة: حماية قسمه من الجدار من الآخرين، تلك الأرواح اليائسة المحاصرة في الخارج وسط بحار هائجة سعياً وراء الوصول إلى آخر أراضي اليابسة المتبقية. الآخرون هم الجحيم، وهم يشكّلون تهديداً مستمراً، هكذا يعلّمون "المدافعين" من زملاء كافاناه. لذا ففشله في حماية الجدار سيؤدي إلى الموت أو ربما مصير آخر أسوأ : الإلقاء في البحر، وأن يصبح "آخر" هو أيضاً. محاطاً بالبرد والوحدة والخوف، يحاول كافاناه تأدية واجباته وتنفيذ أوامر قائده المتطلب، ودرء الضجر عن أيامه بإنماء علاقة عاطفية مع رفيقته هيفا، لكن في أعماقه يتساءل إذا كان مستعداً للقتال من أجل حياته إذا حدث شيء.
باختياره كانافاه كسارد للأحداث، يتيح لانشستر لنفسه ميزة الجمع بين الإخبار عن تطور الحالة الطبيعية، السائدة من قبل، وإطلاعنا على صعوبات التكيّف التي يواجهها الوافد الجديد، مما يجعل من وحشية المؤسسة، التي لا يشكك فيها أحد، ملموسة. يقول كافاناغ "أنا"، لكن قبل ظهور هذا الضمير لأول مرة، تمرّ بضع صفحات. حتى ذلك الحين، يتحدث إلى نفسه بتعميم المخاطَب، كمن يدرّع مسالمته: "أنت تعرف أنك ستبقى هناك لمدة عامين. يبدو الأمر كما في كل مكان آخر، على الأقل جغرافياً، ولكن كل هذا يتوقف على كيف سيكون الناس، الذين ستعمل معهم في وحدة واحدة. أنت تعرف أنه لا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك". تدريع النفس يعني الحفاظ عليها، وفقدانها أيضاً، لأن الثقة بالنفس وتأكيد الذات تجلبهما صرامة واستعلاء عسكريين يأتيان على حساب إماتة الحياة العفوية، وهذا ينطبق على الفرد مثلما على المجتمع ككل. لذا، يستخدم لانشستر لغة موجزة وواقعية، فيأتي التعبير عن مشاعر الخوف والألم والمرارة وخيبة الأمل والخيانة قاسياً مثل خرسانة الجدار.
ليس شمولياً هذا السيناريو، ولا فوضوياً أيضاً. العبودية في هذه الرواية تملك طابعاً مختلفاً. لا يستحوذ أي طاغية على السلطة، لكن الناس أنفسهم يصبحون طواغيت مفردة ينفجر عنفهم تجاه "الآخرين"، الغرباء، القادمين، النازحين. لا تعرّف الرواية هؤلاء الآخرين، وهذا من مزاياها الكبيرة، بل تبقيهم مبهمين وغامضين، لا نسمعهم ولا نراهم، لكنهم موجودون على أي حال. ما يبدو في البداية وكأنه مجرد خدمة عسكرية على الحائط ليس أقل من حرب حقيقية؛ نطالع صداها عندما تموت هيفا أثناء دردشتها مع كانافاه بعد أن اخترقها سهم صامت انطلق من قوس بعيد. "الآخرون" ضعفاء، وفي معظم الحالات، يمكن قتلهم بسهولة في قواربهم المثيرة للشفقة. لكنهم يمتلكون سلاحاً قاتلاً، وامتياز المبادرة إلى جانبهم دائماً. لا أحد يعلم متى وأين سيهاجمون لاحقاً، في حين ليس بمقدور الجنود الموجودين على الجدار سوى الاكتفاء بردّ الفعل. وحتى ذلك الحين، لا يمكنهم فعل شيء سوى الانتظار؛ ذاك المصير العسكري لكل الأوقات.
يصف لانشستر في روايته مستقبلًا قاتماً بعد انهيار المناخ. يستوحي من أسباب القلق المعاصر - الاحتباس الحراري، أزمة الهجرة، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – مازجاً بينها في قصة مشوقة عن الحب والالتزام والنجاة في الزمن الصعب. بريطانيا التي تسردها الرواية تحمل مشابهات غير مريحة لتلك التي تحمل نفس الاسم حالياً: الطقس السيئ، الطعام السيئ، الحانات، الأجواء الكئيبة، الجفاء بين الأجيال، ديمقراطية الحياة السياسية بقدر ما قد يتوقعه المرء في مجتمع تحدِّده الطبقية، الشعور بأن نهاية ذلك كله لن تكون سعيدة على الإطلاق. مع ذلك، فـ"الجدار" ستحبط توقعاتك إذا كنت تبحث عن رواية "بريكسيت"، إذ بالنسبة إلى لانشستر، فالجدار حقيقة تحوِّل الأرواح، الحقيقة المركزية في خضم الرياح والسماء والبحر والبرد. وهو يعطي حضوراً قوياً لتلك الصورة، رغم أن الرواية تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، أولها بعنوان "الجدار"، ثم "الآخرون"، و"البحر". وبرغم أنه لا ينبغي ذكر ذلك هنا، ليس خوفاً من "حرق" الأحداث، لأن هذه الرواية لا تتعلق قيمتها بأحداثها فحسب بل بالطريقة والأسلوب؛ لكن من المحبط إنهاء الرواية بطريقة أشبه بالخيانة.
ذلك لا يمنع التأكيد على استثنائية "الجدار" كرواية محفزّة على التفكير، كان يمكن إضعاف فعاليتها في أيدي أقل كفاءة تذهب بها في النهاية إلى تهويمات رمزية عن قسوة المجتمعات الأوروبية الحديثة، أو حتى عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، من الملاحظ تسويق تلك القراءة الأليغورية للرواية في كتابات نقّاد ودعايات ناشرين، ربما للاستفادة من زخم الأزمة الأوروبية الحادة في إنعاش مبيعات الرواية بإدراجها تحت تصنيف معيّن. وهي أيضاً ليست رواية تحبس الأنفاس أو تجبرك على تقليب صفحاتها تباعاً، خاصة في جزئها الأول الذي يعكس الملل المتثاقل على الحائط. وهي بالتأكيد لا تنتمي إلى الأدب العظيم بقدر استعارتها منه مفاهيمياً وسياسياً.
في الوقت ذاته، هي رواية مخيفة ومرعبة في طرحها لواقعها، إذ يقوم لانشستر ببناء عالمه القمعي من المسجونين والمستبعدين من مجموعة من الأشياء هي بالفعل حقيقة واقعة. كل ما يتعيّن عليه القيام به هو التفكير في الأمر باستمرار وتقديمه أدبياً، ليواجه القارئ كابوساً محتملاً. لكن هذا ليس كافياً بالنسبة له، كمراقب فطن لمجتمعه الحديث. هذه المرة، يأخذ قرّاءه إلى مهمة ويدعوهم صراحةً إلى المبادرة والفعل، لأن "كبار السن"، ممن سيعاقبون بالاحتقار في المستقبل عبر دفع أبنائهم للخدمة على الجدار، قد قرأوا هذه الرواية للتو.
(*) الجدار – جون لانشِستر. فابر & فابر، 276 صفحة. وصلت مؤخراً إلى اللائحة الطويلة لجائزة مان بوكر الأدبية.
(**) جون لانشِستر (1962 - هامبورج) روائي وصحافي بريطاني أصدر أربع روايات وثلاثة كتب غير روائية. ولد في ألمانيا، وانتقل إلى هونغ كونغ، ودرس في المملكة المتحدة. وهو مساهم منتظم في مجلة "ذا نيويوركر". حصل على جائزة "إي.إم فورستر" العام 2008. يقيم حالياً في لندن.