هاني الراهب رسم خطاً في الرمال

بشير البكر

الإثنين 2020/08/31
أشك أن هناك من بين الأجيال الجديدة في سوريا من يعرف الكاتبين هاني الراهب وسعيد حورانية؟ هناك تعتيم ظل مضروباً عليهما في مرحلة ما قبل الثورة العام 2011، مع سبق الإصرار، من طرف السلطات السياسية والثقافية. واللافت اليوم هو أنه، رغم كثرة دور النشر ووسائل الإعلام الثقافية، فإن النتاج الذي تركاه لم يلق الاهتمام الذي يليق به. وحتى الأوساط الثقافية التي تحسب نفسها على المعارضة والاختلاف والدفاع عن الثقافة، لم تفكر مرة بتكريم هذين الكاتبين المؤسِّسين في الكتابة السورية الجديدة، أو إعادة نشر بعض ما تركاه من أعمال ذات قيمة إبداعية عالية.

الراهب وحورانية كاتبان سوريان مرموقان، وكل منهما رحل مبكراً بعدما وضع بصمة خاصة في ميدانه. الأول من رواد الرواية الحديثة، والثاني من رواد القصة في سوريا. وأريد هنا في هذه المقالة أن أقف عند الراهب، على أن أعود إلى حورانية في مقال آخر. ولن أتناولهما على سبيل الاستعادة التقليدية أو التقييم النقدي المعياري، وإنما من زاوية لها علاقة بحياة الكاتب في سياقها الثقافي والسياسي، ذلك أن كلاً من الراهب وحورانية، على اختلاف الخلفية السياسية والثقافية، غادر سوريا مكرهاً، لمدة من الزمن، بسبب الضغوط السياسية والحياتية، وعاد إليها رغم أن الأوضاع أصبحت أسوأ مما كانت عليه. وهناك قاسم مشترك آخر بينهما، هو أن الإثنين رحلا مبكراً بمرض السرطان.

حين نبحث اليوم عن دراسة وافية عن هاني الراهب الروائي المجدد، وصاحب الانتاج الروائي الرصين، لا نجد. وإذا أردنا أن نعرف سيرة هذا الكاتب بعيداً من تاريخ الميلاد، وما يرافقه من معلومات ويكيبيديا ركيكة، لا نعثر على شيء ملموس. مات الراهب العام 2000 وقد تجاوز عتبة 60 عاماً بدرجة واحدة فقط، تاركاً خلفه نتاجاً يستحق أن نستعيده بكل تقدير واحترام، ذلك أنه يعتبر أول من كتب الرواية في سوريا وفق المعايير التي درجت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مستفيداً من ثقافته الانكليزية العميقة التي جاءت من دراسته الأدب الانكليزي في جامعة دمشق، ثم الجامعة الأميركية في بيروت، وأخيراً جامعة لندن التي نال فيها الدكتوراه على رسالته حول "الشخصية الصهيونية في الرواية الانكليزية". وأثمر تعمق الراهب في هذا الميدان، دراسات ذات قيمة نشرها في المجلات الثقافية في السبعينيات من القرن الماضي حول الأدب الصهيوني، ومنها مجلة "المعرفة" التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة السورية.

مسيرة الكاتب السوري هاني الراهب واحدة من سير تراجيديا الثقافة السورية في زمن حكم حافظ الأسد، الذي كان يكن عداء خاصاً للمثقفين، وذلك بحسب شهادات من التقوه من الكتّاب، ومنهم الكاتب المسرحي سعد الله ونوس. وكانت اللقاءات تجري بطلب من الديكتاتور الذي يريد أن يتعرف من خلالها على كيفية تفكير الكتّاب ورؤيتهم للأوضاع السياسية والحياتية. وحسب روايات عديدة، طرح الأسد أسئلة تتعلق بالشأن العام، فسمع أجوبة لا تسرّه، ورد عليها بأن اعتبر الكتّاب شريحة محبَطة تضع نظارات سوداء، لا ترى الواقع على حقيقته، ولذلك لم يشهد عهده أي مصالحة مع كاتب له رأي مخالف أو موقف ثقافي جديد ومتميز، وبقيت تدير النشاط الثقافي مجموعة من الكتّاب غير المشهود لها إبداعياً، وأغلبها مرتبط بأجهزة الأمن التي كانت تحرص على مراقبة الكتابة في شتى المجالات، من مقالات الصحف والكتب المطبوعة وحتى المحاضرات، وما يدور في جلسات السمر والمقاهي، وهناك كتّاب سُجنوا بسبب وشاية من مخبر نقل كلاماً جارحاً للحكم صدر على سبيل الثرثرة في إحدى السهرات.

ويعكس الوضع المزري لمؤسسة اتحاد الكتّاب العرب جانباً من رؤية الأسد ونظامه للثقافة وموقفه من المثقفين، ذلك أن تعيين شخصية متواضعة على مستوى الكتابة والحضور الثقافي مثل علي عقلة عرسان على رأس الاتحاد لمدة 28 عاماً (1977-2005) هو عبارة عن موقف رمزي، يحمل في طياته احتقاراً للكتّاب والكتابة، وكانت إدارة عرسان لشؤون الاتحاد قريبة جداً من اسلوب عمل مؤسسة ذات طابع أمني، ليس على مستوى القمع الثقافي والسياسي للكتاب ومصادرة حقوقهم فحسب، بل هناك اعتداءات جسدية تعرض لها كتّاب داخل مقر الاتحاد من قبل حرس عرسان وبأمر منه، مثل ذلك الذي حصل مع الروائي خيري الذهبي.

ومن أبرز الفظائع التي تسجل بحق الثقافة في عهد حافظ الأسد، قيام الاتحاد بمراقبة الكتب الأدبية المؤلفة والمترجمة التي ترده من وزارة الإعلام للحصول على موافقة الطباعة، أو التداول، وكانت وزارة الإعلام تقوم بهذه العملية وفق معايير محددة، إلى أن تنطح اتحاد الكتّاب للقيام بهذا الدور المشين. ومن المفارقة أن رقابة الاتحاد كانت على الدوام أشد وطأة على الكتّاب من رقابة وزارة الإعلام الرسمية. ووفق تقرير صادر عن الاتحاد، بلغ مجموع الكتب الواردة إلى الاتحاد من وزارة الإعلام منذ 2000 إلى 2005 للحصول على موافقة بالطباعة أو التداول، 5219 كتاباً مُنعت الموافقة عن 1108 منها، أي ما يتجاوز نسبة 20 في المئة.

ويبدو أن تكوين هاني الراهب الثقافي والانساني، زرع فيه فضيلة الابتعاد من السلطة. وساهم في ذلك تفوقه الدراسي. تفوق في البكالوريا فحصل على منحة دراسية، ودرس الأدب الانكليزي في جامعة دمشق وأكمل في الجامعة الأميركية في بيروت من خلال منحة دراسية، ومن بعد ذلك ذهب ليكمل دراسته في لندن وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن بامتياز، وبدلاً من أن يبقى هناك، عاد إلى دمشق ليدرّس في جامعتها، لكنه قرر، أمام الضغوط الأمنية والحياتية، أن يرحل إلى الكويت واليمن ليدرّس في الجامعات، بعدما تعرض إلى ضغوط سياسية، رغم أنه لم يمارس العمل السياسي بالصفة الحزبية، ولم يكن من بين الكتّاب الذين كانوا ينفقون وقتهم في المقاهي والسهرات يناقشون الأوضاع السياسية والثقافية، بل عُرف عنه أنه شخص يعيش داخل مساحة ضيقة جداً في دمشق، تمتد من البيت إلى الجامعة، ومن الجامعة يمر في بعض الأحيان إلى مقهى اللاتيرنا ليلتقي عدداً محدوداً جداً من الأصدقاء، ومن بعدها يعود إلى منزله.

هاني الراهب أحد المثقفين السوريين المرموقين، لكن شاغله الأساسي كتابة الرواية، وتُجمع القراءات النقدية على أنه أهم من كتب الرواية في سوريا من جيل الستينيات، ورصيده في ذلك رؤية سياسية مستقبلية، وثقافة انكليزية عميقة، لكنه قبل ذلك صاحب مشروع روائي خاص. ويقول الراهب في حوار معه: "ما دامت الرواية ظاهرة تكاد أن تكون حديثة العهد في تراثنا الأدبي، فينبغي أن يحتويها بناء لغوي وأسلوبي جديد". روايته الأولى "المهزومون" فازت بجائزة دار الآداب للرواية بين 150 رواية العام 1960، ولم يكن الراهب معروفاً قبل ذلك، وكان لا يزال طالباً في السنة الجامعية الأخيرة، الأمر الذي أصابه بالدهشة، وولّد لديه رد فعل مسؤول تجاه الكتابة. ويقول الراهب معلقاً على ذلك الحدث المهم في حياته ككاتب: "خفتُ خوفاً شديداً من الشهرة أن تؤثر في إجادتي لكتابة النص، فرحتُ أعمل على تكثيف النص لغوياً وبنيوياً الى درجة أن الفصل الأول من روايتي الثانية "شرخ في تاريخ طويل"، أخذ سبعة أشهر، والرواية كلها استغرقت سبع سنين بدلاً من شهر واحد، هذا هو قلق المبدع الحقيقي المسكون بالهواجس الحياتية والروائية والأسئلة الوجودية (فنحن سكان مدن الأسئلة)".
"الوباء" تُعدّ واحدة من أهم الروايات العربية التي صدرت في القرن العشرين(1981)، والتي اشتغلت على تفكيك بنية الوضع العربي وتركيبتها المعقدة، مروراً بالحالة السورية وعُقدة الأقليات، وموضوعها هو التحولات في مدينة اللاذقية التي يتحدر الراهب من إحدى قراها (مشقيتا)، وتُجمع الدراسات النقدية على أن رواية "الوباء".. "تجسد فنياً التطورات السياسية والاجتماعية في سورية بعد العام 1963، وترصد التحولات الاجتماعية الكبيرة التي أصابت بعض الشرائح الريفية التي تحولت بفعل الانقلابات إلى وضع هجين ما بين ريفي وعسكري، والتي أصبح لها القول الفصل في السياسة، وذلك من خلال تناول فكرة الأرض وتعاقب الأجيال وكشف المتناقضات بين الأفراد (أفراد سلالة الشيخ السنديان). فالجد الأكبر نال مكانته الاجتماعية وسلطانه بسبب الأرض.. وعلى مدار قرنين، جيلاً بعد جيل تتوالى الأجيال والمصائر، وتعبّر الأرض عن نفسها بل عن دورها عندما يموت الجد الأكبر وتبدأ عملية تقسيم الأرض، وبعدها يبدأ الصراع، وتنكشف العيوب.
وتؤكد بنية السرد المميزة لدى الراهب في هذه الرواية على رغبة في التجريب والتجديد، فهي ذات مستوى فني وتقني كبير. وبحسب الروائي والناقد السوري نبيل سليمان: "يقترب أسلوب هاني الراهب في هذه الرواية من أسلوب الروائية الإنكليزية جين اوستن".

هاني الراهب روائي مشغول بتجاوز الحالة السورية إلى الوضع العربي. ففي رواية "التلال"، يتناول تجربة التقدم في تاريخ الأمة العربية المعاصر، وهي لا تخص بلداً عربياً دون آخر، وكمعادل روائي فقد وضع الراهب مكاناً يتكون مما هو عام ومشترك، وكذلك أسماء الشخصيات والبلدان ذات الدلالة الخاصة والمستمدة من تاريخ المنطقة. وفي الرواية الأخيرة "رسمتُ خطاً في الرمال"، يرسم الراهب خريطة تراجيدية للواقع العربي وسط عالم يتفكك ويتقوض، وقد صدرت العام 1999 قبل وفاته بالسرطان. واستعار لعنوانها عبارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في حديثه عن "عاصفة الصحراء" العام 1991 التي شكلت المدخل للحال البائسة التي تعيشها اليوم منطقة الشرق الأوسط التي تغوص في الرمال، وهي ما زالت تدفع الضريبة الكبيرة لهزيمة الخامس من حزيران العام 1967، وحكم العسكر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024