رفائيل برانش تؤرخ الصمت حول حرب الجزائر

روجيه عوطة

الأربعاء 2021/01/06
شاقة هي المهمة التي أخذتها رفائيل برانش على عاتقها في كتابها "بابا ماذا فعلت في الجزائر؟"(*)، والتي تحددها في جملة اضافتها إلى هذا العنوان: تحقيق حول صمت عائلي. وصعوبة هذه المهمة، مثلما هو واضح، تتعلق بكونها، بداية، كسراً لهذا الصمت، أو خرقاً له. كما أنها تتعلق بكونها تأريخاً لما يجيء بعد هذا الكسر أو الخرق، اي الكلام الذي يستوي كإجابة على استفهام عن الحوادث والوقائع التي عاشها، والتي مارسها عدد من الجنود الفرنسيين في حرب الجزائر في نهاية خمسينات القرن المنصرم وبداية ستيناته. بالتالي، يمكن القول إن برانش تبحث في الصمت داخل عائلات هؤلاء قبل أن تفك أَسرَهم منه، محاولة كتابة تاريخه، تاريخ صناعته، وتاريخ الانصراف منه أيضاً.

على هذا النحو، وفي حال استندت برانش إلى استفهامها عما فعل جيل الأهل في الجزائر، فهي، وفي الوقت نفسه، تطرح سؤالاً عن صمته. ففضلاً عن استفهامها "بابا ماذا فعلت في الجزائر؟"، هناك سؤالها "كيف أؤرخ الصمت؟". فعلياً، وعند وضع الجهد التحقيقي جانباً لبرانش، يصح الإعتقاد أن سؤالها ذاك هو أفضل ما في كتابها، بحيث أنها، وعلى أساسه، تحاول الامساك بسبل وأدوات إنتاج الصمت إذا صح التعبير. فطوال صفحات الكتاب، هناك إشارات متعددة الى هذه السبل والأدوات، وهي لا تظهر فعلياً سوى على ضوء سبل وأدوات التراسل بين الجنود في حربهم الجزائرية وذويهم في البلاد. اذ تخصص برانش قسطاً من تأريخها للرسائل والصور التي كان يتبادلها الطرفان من أجل الإبقاء على الصلات بينهما، مثلما أنها، وفي إطار هذا التخصيص، تبرز كيف كانا يتقاسمان همّاً بعينه، وهو تناقل العَيش بتفاصيله، أكان الذي يدور في الجزائر أو في فرنسا. في الواقع، ما رمت اليه برانش من ذلك التخصيص هو تصويب النظر الى أن الطرفَين كانا يتداولان مجريات الحرب الجزائرية، ومجريات الانخراط في عنفها بارتكابه سجناً وتعذيباً وقتلاً من قبل هؤلاء الجنود. الا أنه، وفي الوقت نفسه، تداول ضئيل، اذ إنه-وهنا بداية الصمت- غالباً ما كان يحضر على الهوامش أو مواربة حتى، الى درجة غيابه عن التراسل وحديثه أيضاً.

لكن، وإن كان الصمت يبدأ من هذه الناحية، فهو يتبلور أكثر في نواحٍ أخرى، تلك المرتبطة بعودة الجنود إياهم الى وطنهم. فيكاد ذلك الصمت يكون صفة، أو بالأحرى مَركَبة تلك العودة، التي حملتهم لاحقاً الى تأسيس عائلاتهم بالاستناد اليها. ثمة هنا ملاحظة لا بد من تسجيلها في شأن تأريخ برانش لهذه العودة، وهو كيفية تقديمها لها بطريقة دراماتيكية. فها هم بعض الجنود، وما إن صاروا آباء، حتى مضوا الى حرق أو رمي الرسائل التي كانوا قد بعثوا بها الى زوجاتهم أو حبيباتهم آنذاك. أما بعض أغيارهم، فقبل أن يصيروا على شاكلتهم، استقبلتهم المستشفيات في أقسام الطب النفسي، حيث أمضوا وقتاً قصيراً ليتعافوا، أو هكذا ظنّوا، لا سيما حين يكون التعافي بالإنكار، راجعين الى "حياة طبيعية"، التي تُعدّ الانتحارات والكوابيس والانعزالات من ركائزها.

على هذا النحو، انطلق الجنود، وبصحبة عائلاتهم، الى الصمت، الذي سرعان ما حضوا أولادهم عليه، بحيث نقلوه لهم، وجعلوا من حربهم، والمشاركة فيها، موضوعاً غير موجود. أما أرض هذه الحرب، أي الجزائر، فبقيت مستترة، رغم جلائها في لغة الآباء، أي العبارات التي جلبوها معهم من تلك الأرض، ومعها بعض الأغراض من أوانٍ ولوحات وثياب وغيرها. فظلت الجزائر، في عيون أولاد هؤلاء الجنود، بعيدة، بل مجهولة، مع أنها قريبة بالعبارات والأغراض منهم، أو مع أنها بالأحرى حولهم.

على أن برانش، وخلال تأريخها للصمت، تؤكد أنه ليس مزاولة عائلية فحسب، بل إنه سياسة رسمية أيضاً. فالدولة آنذاك لم تقرّ بأن حرب الجزائر هي حرب، بل قدمتها كصراع، وبالتالي، فالعائدون منها ليسوا محاربين قدامى، بل مجرد جنود وقد أتمّوا خدمة العلَم. في النتيجة، لم تؤد الدولة، بسياستها هذه، سوى الى جعل عودة الجنود مبهمة، كما لو أنهم لم يذهبوا الى الحرب، ولم يرجعوا منها. بالطبع، بهذه السياسة كانت الدولة تريد طمس تلك الحرب، وفي طريقها الى تحقيق ذلك، طمست كل سِيَر هؤلاء، التي فتشت فيها برانش، فوجدت أن تلك الحرب ما زالت حاضرة هنا، كما أنها تريد أن تنصرف من تغييبها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024