يوميات العزل: "فليأكلوا الكيك"

شادي لويس

الجمعة 2020/04/10
اكتفى الكتّاب من رواية "الطاعون"، معظمهم على الأقل. مازال بعضهم يكتب عنها في الأعمدة الأسبوعية، ربما للمرة الأخيرة، اللوائح التي تعدها الجرائد وضعت روايات الأوبئة وأفلام نهاية العالم جانباً. الجمهور في حاجة إلى ما يخفف ثقل نشرات الأخبار، وعدّاد الموتى اليومي. الصحافة الثقافية تلاحق الأحداث، ونجومها يسعون أيضاً لأن يكونوا جزءاً من المشهد، قسماً يومياً يظهر في الصحف، عابراً للحدود واللغات. صنف أدبي جديد، ليس جديداً تماماً: يوميات العزل. 

في مجلة "ذا اسبيكتاتور"، ينشر الأميركي بن سيكسميث، "يوميات كاتب في زمن الكورونا"، يكتب بتباهٍ صبياني عن العزلة "التي يعرفها الكتّاب جيداً"، ووحدتهم، "برفقة كوب من القهوة وأمام لابتوب"، والتضحيات في سبيل حرفة الأدب "التي يدركها المرء فجأة". أي أن مفارقة العالم، العزل الطبي، تبدو تفصيلاً جانبياً لا يؤرق كاتبنا، سوى في إنه يفتقد المهرجانات ومعارض الكتاب ولقاءاته مع القراء، ويعبّر عن تحرقه الجنسي في العزل بالتساؤل عن إمكانية مواعدة "الكورونا".

في بعض من اليوميات المنشورة بالعربية، وبلغات أخرى أيضاً، نرى ظلالاً للأمر نفسه، المباهاة بالاعتياد على العزلة، مباهاة مخدوشة، يغلفها الانزعاج والتبرم أحياناً. فتلك وحدة مفروضة، إجبارية وأقرب إلى الحبس، عزلة معممة أيضاً، على المشاع، وللجميع وعلى الجميع. الفرادة التي كانت تميزها فقدت بريقها ومهابتها، لم تعد العزلة حكراً ولا تضحية ولا امتيازاً ولا بطولة، ولا ثمن يدفع لقاء شيء. لم تعد العزلة، عزلة في الحقيقة، فما معناها حين يكون الجميع معزولين؟ 

"حظر تجوال؟ للكاتب، هذه ضربة حظ"، نالت يوميات المغربية الفرنسية، ليلى سليماني، المنشورة في صحيفة "لوموند"، النصيب الأوفر من الهجوم، داخل فرنسا وخارجها. تكتب من بيتها الثاني في الريف، والذي انتقلت إليه من باريس بعد بدء إجراءات العزل: "الأمر كان كالجميلة النائمة"، البيت الذي تتعدى قيمته ثلاثة ملايين يورو، توارثته عائلة سليماني لثلاثة أجيال، وهي تكمل: "هذه الليلة لم أستطع النوم، من نافذة غرفة نومي، شاهدت الفجر يشرق على التلال، العشب المتجمد، أشجار الليمون، والفروع التي تظهر عليها البراعم أولاً". الصورة التي أرفقتها الجريدة لسليماني مع اليوميات، تظهر فيها تفتح شباكاً يبدو في طابق علوي من البيت المحاط بالنباتات المتسلقة، على وجهها ابتسامة عريضة، وتشع وقفتها بالكثير من الخفة والبهجة.

يصف القراء، في تعليقاتهم، يوميات سليماني، بأنها تذكير بماري أنطوانيت، في مقولة "فليأكلوا الكيك". معلق آخر يكتب، "وكأن الثورة الفرنسية لم تقم!"، "العالم الموازي الذي تعيش فيه سليماني" لا يشبه العالم الحقيقي الذي يعيشه ملايين الفرنسيين في شقق صغيرة، حيث تقاس الأيام بالأمتار وأحيانا أقل، ببضع أشبار لا أكثر، وحيث لا تطل الشبابيك سوى على باحة داخلية ضيقة، بلا أشجار ولا براعم.

"إضفاء الرومانتيكية على العزل، امتياز طبقي"، كما تقول يافطة مكتوبة بالإسبانية، (في صورة لست متأكداً من موقع التقاطها)، ملايين أيضاً مضطرون للخروج إلى وظائفهم، والتي في معظمها أساسية وذات مداخيل منخفضة، ليواجهوا خطر العدوى في كل يوم وكل ساعة. بلا مشاكل، كانت ستمر يوميات سليماني التي تشبّه العزل بلعبة "الكراسي الموسيقية"، ربما في بلد مثل الولايات المتحدة، حيث التباهي بالثروة والحياة الهانئة في حد ذاته مبرر كافٍ للشهرة، أو في بلد أوروبي آخر (غير فرنسا) ذي حس اجتماعي أقل وتاريخي طبقي أقل دموية.

لكن سليماني، الكاتبة التي حصلت قبل أن بلوغها منتصف الثلاثينات من العمر، على أعلى جائزة أدبية في فرنسا، وأصبحت واحدة من الأكثر مبيعاً، إن لم تكن الأكثر مبيعاً، لا تحيد في يومياتها عن التقاليد الأدبية السائدة لجيلها. فلأكثر من خمسة عقود ربما، أضحت فكرة "الانفصال" هي الأكثر توقيراً في الدوائر الأدبية، تحييد الطبقي والاجتماعي والسياسي بقدر الإمكان، التركيز على الجماليات، القالب على حساب المضمون، بُعد الكاتب من موضوعه، بل وحتى من زمنه وجمهوره (هكذا تبدو فكرة عُزلة الكاتب مفهومة بل وربما ضرورية). تكتب سليماني في النهاية، نصاً معتاداً وجمالياً، عن "التفاصيل الصغيرة"، والشخصية والعادية والحميمية والفردية جداً، والصادقة بلا إي أدعاء، أليس هذا ما أصبحنا نعتبره نصاً جيداً منذ وقت طويل؟ بمعايير، حين نتأملها في هذه اللحظة تحديداً، ألا تبدو حقا مستوحاة من نموذج "فليأكلوا الكيك"؟ 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024