عِشْ في خطر...هل يُنزل كورونا إنسانَ نيتشه من عليائه؟

شريف الشافعي

الخميس 2020/03/19
لربما تقود البديهة للوهلة الأولى إلى أنه، مع تعاظم المحن العامّة والمآسي الجسام والكوارث الإنسانية المتصاعدة كالنار في الهشيم، يصل النفور من "التنظير" إلى ذروته، حتى ليرى البعضُ الفكرَ برمّته سُترة بالية منغلقة، بل مثيرة للاستهزاء والشفقة، وفي المقابل تزداد العقول والقلوب والأرواح تعلقًا بالقوة القادرة على الفعل المباشر، ومواجهة منابع الخطر بأسلحة ماضية.

ازدواجيات كثيرة، وهمية ومبالغ فيها، أفرزتها تحدّيات أزمة فيروس كورونا المستجد، كرّست عن عمدٍ أو عن قصور في الرؤية الشاملة، لتصوير العلم (أمل البشرية بمعامله الطبية) وكأنه في صراع مع الدين تارة (بماذا نفعتنا المعابد التي اضطررنا لهجرتها صاغرين؟)، ومع الإجراءات السياسية والإدارية حينًا (الفشل الحكومي يزيد المشكلة ويقتل أحلام الباحثين والعلماء)، ومع كافة المداخل الثقافية لقراءة المشهد والتعاطي معه فرديًّا وجماعيًّا (ليصمت الخيال أو فليذهب إلى الجحيم، هذا وقت المعلومات والإرشادات المحددة بعناية).

إن تسمية كورونا ذاته بالمستجدّ يفترض بالضرورة هامشًا واسعًا للمجاز، ولنسف هذه الثنائيات الهزلية التي أهدرت طاقات البعض في نزاعات لا تقل سطحية عن تلك التي بين المختلفين حول نشأة الفيروس، وما إذا كان وليدًا لتصنيع بشري، أم لتطور حيوي طبيعي، أم هو إفراز الوطاويط الطامعة في خلافة الإنسان في الأرض، أم هو الرسالة الإلهية والعقاب المستحقّ، إلى آخر هذه السيناريوهات التنافسية والهوليوودية بهدف إرضاء غرور أنوات السوشيال ميديا المتضخمة الباحثة عن تحقق نسبي في زمن الضياع الكلي المهيمن.

تبقى الحقيقة واضحة حتى مع انهيار اليقين والثوابت، وهي أنه من غير القدرة على استشفاف معطيات اللحظة المعيشة الراهنة، الواقعية العملية في المقام الأول بالتأكيد، بكافة الصيغ المتاحة، بما فيها الزوايا الفلسفية والفكرية بل والإبداعية والفنية، فلن تخرج خطة محكمة لاحتواء المصاب الجلل من دون ثغرات. ذلك أن أكثر الاستراتيجيات والوصفات العلمية المجردة تفاؤلًا، لم تخرج بعد عن إطار الافتراضات والاحتمالات، وكلها بلا استثناء مغلفة بالتوقع والاستنتاج والتخييل والاشتغال التجريبي على غير قياس.

نشاط كورونا، ولانمطيته، وقدرته على التجدد، وجرأته، ومبادرته، واقتحامه، وخطورته، وغيرها من سماته وخصائصه التي تتكشف يومًا بعد يوم، هي مفاتيح رسائله الأعمق في طيّات هجماته العنيفة، التي تفجّر بدورها مفاهيم مُقابِلة تفسح المجال من جديد للحديث عن ذلك الإنسان "القوي"، وإمكانية ظهوره خارج فضاء الحلم، وممارسته مهامّه في حماية نفسه ومن حوله وتوسعة نطاق نفوذه والتغلب على أعدائه الكثيرين، كالخوف والهلع والتطويع والتنميط والآلية والقولبة وفقدان الثقة في الذات والإرادة وفي الإرهاصات الابتكارية خارج منظومة التوجيه والامتثال للأوامر وبرمجيات التحكم من بُعد.

من جنون اللحظة النشطة، المُفَيْرَسَة، تلاشي ذلك الحاجز بين دراما الحياة والأوراق والافتراض، فلم تعد مقولات وأفكار من قبيل "عِشْ في خطر" و"تمجيد القوة والإرادة" و"تحسُّس كمال الإنسان في سلاحه وإقدامه" وغيرها، مجرد دعوات لنيتشه يمررها على لسان بطله زرادشت. لكنها باتت محور المسرحية الكونية الدائرة، وقد تماهى المتفرّجون والأبطال تمامًا في العرض الهزلي التراجيدي، والذي سيبقى خارج الفعل والقدرة على الارتجال، سينسحب دوره إلى آخر أكثر تكيفًا مع القسوة في توزيع الأدوار.

إن ما افترضه نيتشه (1844-1900) في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" من إمكانية ارتقاء البرودة بالحياة، يبدو الآن مقتربًا جدًّا من الواقع. فشراسة الهواء البارد ونزعاته الهجومية العاتية، بكل ما فيها من خسائر وتدمير، هي موقظة إرادة القوة لدى غالبية البشر، ومحفّزة طاقة مقاومة البرد. وتلك الأجساد التي يهاجمها البرد القارس وتقاومه وتنجو منه، ستصل إلى مرتبة عالية من السموّ.

لحين ظهور الأمصال الواقية والشافية والمساعدة، وإلى جانب الالتزام بوصايا المختصّين الواجب احترامها، ومع كل الاحتياطات والسبل المتاحة لتفادي العدوى ورفع الأجهزة المناعية والدفاعية بيولوجيًّا، ثمة خريطة أخرى سرية لمقاومة الفيروس المتحالف مع البرد، بالتحفز والتمرد والمبارزة والتحدي الدائم للعبور إلى ضفة النجاة بقوة، ليكون في قلب الأزمة المُظلمة منبت لشعاع النور، وليتمكن الراغبون في تجاوز المحنة من قنص انتصارات قد لا يعلم آخرون عنها شيئًا في ضجيج الفوضى والسطحية والتفاهة، لكنهم بإمكانهم نيلها مقتربين من معنى التحرر والتفوق، بما قد ينعكس لاحقًا في تحركات البشر الإيجابية والثورية على الأرض في سائر المجالات، ويساعدهم على استبدال حياتهم البيروقراطية الجاهزة الرتيبة، غير الآمنة في الوقت نفسه، بأخرى أكثر وهجًا وإبداعًا يستحقونها كآدميين، بعدما صار العالم كله، حتى قبل كورونا، يوصف سوسيولوجيًّا بـ"مجتمع الخطر".

هذا الاحتشاد على كل المستويات، ضد الكارثة، هو أكبر اعتراف بوجودها، وأبعد ما يكون عن ذلك الميل إلى إنكارها وتهوينها، وذلك التعاطي الإيجابي النيتشوي مع الخطر ليس تزيينًا للتهلكة، ولا تردادًا لمكاسب انتقائية انتفاعية بلهاء تُرتجى من المصائب، لكنه قد يكون الاختيار الوحيد المتاح في لحظة ما، تتقزم فيها السبل والوسائل التقليدية للحماية والاستبسال بأعلى همة إنسانية ممكنة.

من غير هذا الإحساس بالخطر، المشحون بقدر من المغامرة ومسحة من الجنون أحيانًا، تتضاءل فرصة التخطي والتجاوز. وبغير ملامسته جهارًا في لحظات أكثر شراسة، لربما بقيت الخطوات عالقة في منتصف الطريق الوعرة، بما يفتح إمكانية التقهقر إلى الوراء في أية لحظة، حيث يمحو الجُبن والانصياع فرص اعتلاء الإنسان القوي الحُرّ المشهد. لقد انحدر كورونا من ذرّات الهواء البارد، فهل سينحدر الإنسان النيتشوي الأعلى من سلالة البشر؟
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024