"نورهان": حلم طفلة.. ونجمة الأربعينات المنسية

حسن الساحلي

الجمعة 2019/03/08
في الفيلم الوثائقي الذي صنعته مي قاسم عن جدتها المغنية اللبنانية نورهان Nourhane A Child’s Dream وعرض في دار النمر (بيروت) وسينما إشبيليا (صيدا)، يبدو ماضي المرأة ماضيين. الأول مُطعّم بالنوستالجيا، ينطلق من وجهة نظر الحفيدة المفتونة بتلك الحقبة ورموزها (الأربعينات والخمسينات). أما الثاني فأكثر واقعية، ويأتي على لسان نورهان نفسها، التي تخبرنا مجموعة قصص طريفة تتذكرها عن تلك الحقبة حينما كان وضع المرأة أصعب مما هو عليه اليوم، وحينما ارتبط العمل في المجال الفني بوصمة عار اجتماعية لا يمكن الإفلات منها.


يظهر هذا التضاد بين الحفيدة والجدة، عندما تخبرنا الأخيرة قصة توقفها عن العمل في المجال، كفعل تحرري من كمية المشاكل و"العكرتة" الموجودة فيه، مع رغبة في "أن يكبر ابنها ولا يخجل أمام أصدقائه بمهنة أمه"، على عكس وجهة نظر الحفيدة التي رأت أن توقف جدتها عن الغناء شكّل حدثاً قاسياً، فرضه واقع صعب على المرأة تغير اليوم كلياً، مع انقلاب العار إلى قيمة إيجابية تفخر بها الحفيدة، دفعها إلى صناعة فيلم عما حاولت الجدة إخفاءه طويلاً عنها (تخبر المخرجة في الفيلم أنها لم تعرف بماضي جدتها سوى عند تخرجها في معهد السينما، حيث استثمرت الجدة علاقاتها القديمة لإيجاد عمل لها).

يتشكل الفيلم من خلطة وسائط فنية (فيديو، أنيميشن، مقاطع من أفلام سينمائية، والكثير من الصور الفوتوغرافية)، تستعمل قاسم جزءاً منها لتحفيز الجدة على التذكر، ما ينتج مجموعة من الحوارات والقصص المتفرقة خلال الفيلم لا تحاول الإحاطة بتجربتها الفنية، بقدر ما تركز  على حكايتها الشخصية، وانعكاسات عوالمها الداخلية، بينما تعود بالذاكرة إلى حقبة عمرها أكثر من نصف قرن.


(*)ولدت نورهان لأب وأم شركسيَين، هاجرا من القوقاز هرباً من المجازر التي ارتكبها الروس بأبناء شعبهما، وقد أنجبا أولادهما في دمشق قبل موت الأب في غضون 40 يوماً من ولادة الطفلة نورهان، ثم الأم بعد 7 سنوات فقط، فانتقلت الابنة إلى المدرسة الداخلية. تقول نورهان في الفيلم أن اسمها الأصلي خيرية، وقد سميت نورهان كإحالة إلى نور الهدى وأسمهان، وهما الغناء خلال تلك الحقبة في مصر وسوريا.

ينتقل الفيلم بين الأزمنة التي عاشتها الفنانة، ابتداءً من الطفولة التي شهدت بداية حبها للغناء عند اكتشافها مشغل إسطوانات في منزل صديقة والدتها، سمعت عليه للمرة الأولى أغنية أم كلثوم "اللي حبك يا هناه"، وصارت ترددها لاحقاً مع أغان أخرى أمام صديقات والدتها. أما القصة الثانية، فلا علاقة لها بالفن، وتتمحور حول لعبة اشترتها لها والدتها، وقد سرقتها منها طفلة أخرى لم تتمكن من اللحاق بها. ومن المثير رؤية الجدة وهي تستعيد الحالة الشعورية نفسها التي اختبرتها خلال طفولتها كأن الحادث قد حصل منذ وقت قريب.

نقفز زمنياً إلى زواج نورهان الأول في عمر الثالثة عشرة، من أستاذ لغة وأدب لبناني، يجيد 11 لغة لكنه "لا يفهم كثيراً بالنساء والأولاد، وكل ما يعرفه هو العلم وقراءة الكتب". أقنعت الفنانة زوجها باستكمال دراسته في الخارج، وانتقل الإثنان للعيش في القاهرة، حيث ستدرس الموسيقى قبل أن تفتح لها المدينة أبواب الشهرة (بفضل رواج اللون اللبناني والسوري الشعبي الذي لم يكن معروفاً في السابق)، وتعلمها كيف تكون نجمة حقيقية في التصرف والسلوك والمظهر الخارجي (لكن بدايتها الفعلية كانت في السينما التي عملت فيها بداية كومبارس، وتعرفت بفضل هذا العمل على فريد الأطرش وآخرين مهدوا لها الدخول في مجال الغناء).

أربعة أحداث في الفيلم تلخص علاقة نورهان بزوجها الأول: حين سكبت عليه صحن الفاصولياء بسبب كلامه "المتفلسف والفارغ"، عند عودتها متأخرة من تصوير أحد الأفلام فوجدته يحرق صورها وفساتينها، ويسأل عن القُبلة التي جمعتها برجل في فيلمها الأول "الخير والشر" (1946)، وبررتها بأنها غير حقيقية ومجرد حيلة سينمائية، وأخيراً قصة حرقه جميع كتبه ودخوله عليها مدعياً أنه النبي محمد، ما دفعها لمغادرة المنزل وعدم العودة أبداً.



بعدها، تزوجت نورهان من محمد سلمان، حبها الأول الذي تعرفت عليه في فيلم "الخير والشر"، وكان، كما تقول، "رجلاً طيباً ووسيماً وخفيف الدم، بإمكانه تسلية مَن بعمره لم يتسلَّ"، إلا أن العلاقة لم تستمر طويلاً، وقد تكلمت الصحافة كثيراً عن احتمال انفصالهما. لكن الفيلم لا يلتفت كثيراً إلى الجانب المرتبط بصورة الفنانة العامة وتجربتها الغنائية. فالأحاديث عن الحفلات والأغاني وأيام الإذاعة، قليلة في الفيلم، بالمقارنة مع ما تسرده مثلاً عن أصدقائها وصديقاتها، وعن أحداث صغيرة مرتبطة بالصور القديمة التي تمر أمامنا في الشاشة.

أكثر الصور إثارة للإنتباه تلك التي تجمعها مع صديقها الحميم، عازف البزق محمد عبد الكريم (لحّن لها مجموعة من الأغاني)، وصديقتها المغنية أنطوانيت اسكندر، حيث تبدو السعادة على الثلاثي بشكل واضح، وقد كُتب في خلفية الصورة "ها نحن الثلاثة الغلبانين والمعذبين في هذا العالم، ليس لدينا سوى الموسيقى سلوى لقلوبنا المحطمة، فلا نحيا سوى لها ولا يبقى لدينا غيرها في الوحدة". تخبرنا نورهان بشيء من الحنين عن تلك الأيام، مع محمد عبد الكريم (أمير البزق الشهير الذي كان يعاني حدبة في ظهره ومشكلة في الطول)، وكان ينام ويفيق في بيتها، وقد وضعت له وسادة خاصة في سيارتها ليجلس عليها فيبدو حجمه أكبر بجانبها.

تنقلت نورهان كثيراً بين القاهرة ودمشق، وحلب وبغداد، فغنت في مطاعم وأندية لفترات معينة قبل عودتها إلى بيروت واستقرارها في الإذاعة اللبنانية مع بداية الخمسينات، حيث غنت لعدد كبير من الملحنين، منهم محمد محسن، فيلمون وهبي، حليم الرومي، سامي الصيداوي، عبدالرحمن الخطيب، ومحمد عبد الكريم، وغيرهم.

تذكر نورهان أحداثاً عديدة مزعجة، ربما لعبت دوراً في نفورها من المجال، منها طلب صاحبة مطعم أن تجلس مع أحد الزبائن (وقد سببت هذه الحادثة مشكلة بين محمد عبد المطلب صديقها وشريكها في الغناء في المطعم نفسه مع الإدارة)، وأخرى عن كم الحفلات المجانية التي كانت تُطلب منها وتعجز عن رفضها (لفلسطين ونقابة الفنانين والنادي العربي...)، فهي مثلما أكدت، كانت تغني لتعيش، ولم يكن لديها أي مورد آخر للدخل. طبعاً، فإن الضغوط الإجتماعية التي يتحملها الفنان ضمن المجال، أدت دوراً مهما في ابتعادها، وقد وصلت في إحدى المرات إلى حد قيام مظاهرات قبل حفلتها الأولى في مدينة حماة، ما اضطرها إلى التخفي وهي في طريقها إلى المسرح، وقد انتهت المظاهرات بوضع قائد شرطة المدينة مدفعاً على المسرح!

أما في ما يخص تجربتها السينمائية، فلم تكن ناجحة كثيراً، لكنها أخذت مساحة كبيرة من فيلم حفيدتها بعكس تجربتها الغنائية. شاركت الفنانة في أفلام "الخير والشر" (1946) و"ابنة الشرق" (1947) و"ليلى في العراق" (1951)، والأفلام الثلاثة لمخرجين كانوا يعملون للمرة الأولى في المجال.. و"هي تفهم بالإخراج أكثر منهم". الفيلم الأول كان من إنتاج صاحب معمل سوري "غشيم ولا يفقه شيئاً"، لكنه سمع أن السينما مربحة فقرر الإستثمار، وقد وظفها لأنه "أحب مساعدة بنت بلده". أما الفيلم الثاني، فمخرجه "كان يعرف في تاريخ السينما والنقد فقط، وقد أخرج محمد سلمان نصف الفيلم!".

افتتحت نورهان لاحقاً صالون "نور" للحلاقة، والذي ما زال موجوداً في حي عرنوس الدمشقي حتى اليوم (وفق المخرجة)، وكانت حينها قد توقفت نهائياً عن الغناء. لاقى المكان نجاحاً كبيراً (ساهم في نجاحه تردد الزبائن من أجل "التفرج" عليها، بالإضافة إلى الموقع الإجتماعي الذي احتلته الفنانة ضمن المجتمع الدمشقي)، ما دفعها إلى إرسال ابنها للتخصص في تصفيف الشعر في فرنسا، لكنه انتقل بعد وقت قصير لدراسة الإقتصاد قبل أن يصبح موظفاً في الأمم المتحدة و"يعيّشها معززة مكرّمة" وفق ما تخبرنا الحفيدة لاحقاً. لم تبتعد نورهان فعلياً عن الأضواء، سوى عند توقف الصالون عن العمل، لكنها استمرت في التواصل مع بعض الأسماء المقربة منها، مثل فيلمون وهبة، آمال العريس، رجا الشربجي (إذاعة دمشق)، و"استمرت في صناعة اللوبية التي أحبها عبد الوهاب كثيراً من يدها"، كما "حرصت على نقل عدوى الفن لحفيدتها مي" التي، أعادت تذكيرنا بنورهان بعد غياب طويل.

(*) نعتمد في هذا المقال على تلك الذكريات المتفرقة، لكتابة قصة صغيرة عن امرأة كانت يوماً إحدى أبرز نجمات المشرق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024