جمهور "نتفليكس": الفرديات المتطابقة

يارا نحلة

الثلاثاء 2020/12/29
منذ آذار الماضي، دخل قطاع الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في سبات جزئي جراء تفشي فيروس كورونا. أطفئت الشاشة الكبيرة، فيما بقيت الشاشة الصغرى وحدها لتلبية جوع الملايين من المشاهدين. ورغم توقف عمليات التصوير والإنتاج في معظم بلدان العالم، امتثالاً لإجراءات التباعد والعزل، تضاعف الطلب على الاستهلاك المنزلي للتلفزيون، ما خلق فجوة في اقتصاد كورونا، متمثلة في الفارق الشاسع بين العرض والطلب، فارق لم يعرفه قطاع "الشو-بيزنيس" من قبل. 

شكل ذلك فرصة لزيارة الإرث السينمائي المنسي، والتوقف عند الكلاسيكيات والمحطات المهمة في تاريخ تطور هذا الفن. الا أن هذه الصيحة لم تنضج بالكامل مع هرولة "نتفليكس" الى ملء هذا الفراغ الإنتاجي، عوضاً عن ترك هذه المهمة لأهواء المُشاهد وفضوله. غرفت "نتفليكس" من جعبتها الاحتياطية عدداً لا بأس به من الأعمال الأصلية الجاهزة، كما شرعت في شراء حزمة من الأفلام والمسلسلات العالمية، متجهةً شيئاً فشيئاً الى كسر هيمنة اللغة الإنكليزية على المنصة الأميركية تماشياً مع توسع قاعدته الجماهيرية واكتساحها من قبل الشعوب الناطقة بغير الإنكليزية.

28 مليون مشترك انضموا، في العام الماضي، الى ركب الجماهير الجاهزة لالتهام ما تقدمه منصة البحث التي أسست في بداية الألفية لظاهرة binge watching (المشاهدة الشَّرِهة). بلغ هذا النموذج أوجه في العام 2020 مع اعتزالنا العالم الخارجي، وهو يقوم على مشاهدة حلقات متتابعة وأحياناً فصول كاملة من عمل تلفزيوني أو أكثر في جلسة واحدة. فمع تسلل ثقافة Fast Food الى عالم التذوق الفني والبصري على وجه التحديد، تغير نمط استهلاكنا للمنتجات الثقافية ليتخذ طابعاً قهرياً ورديئاً على نحو مشابه بسائر أنواع الإدمان.

لكن شراهة الاستهلاك هذه، يقابلها كسل وسلبية على مستوى الرغبة اللاهثة خلف الإشباع الكمّي مهما كان نوعه. فرغبة المشاهد النهم، هي رغبة مفرطة وحادة في إلحاحها، لكنها في الوقت نفسه جاهلة لذاتها ومبعثرة في الاتجاهات كافة. وأمام وفرة المحتوى التي تقدمها منصة العرض، تصاب هذه الرغبة بالشلل، فتجدها عاجزة عن إيجاد قنوات لتصريف مخزونها النزوي.

تُغرق "نتفليكس" زبونها في بحر من الخيارات، وترمي خوارزمياته طوقاً للنجاة. تلتقط الإشارات العشوائية التي يطلقها سلوك المستخدم اثناء تصفح الموقع، وتبلور منها اقتراحات محددة، منظمة، مصنفة ومخصصة لشخص المستخدم. أهم من كونها منصة عرض، تكمن أفضلية "نتفليكس" في تمتعها بنظام لتوليد الاقتراحات هو الأكثر تطوراً في هذا المجال، وذلك بفضل الكم الهائل من البيانات التي يحصدها من جمهوره الواسع.

تعرف "نتفليكس" مشاهديها أكثر مما يعرفون أنفسهم. تدرس نزعاتهم الثقافية كأفراد وجماعات وتصيغ عبرها معادلات قياس الرغبة وتطويعها. تستخدم المنصة بيانات زبونها لاختراق ذاتيته المجهولة له، فتمسك بيد المشاهد التائه وتقوده الى ما ينبغي أن يعجبه. عند زيارتك متصفح "نتفليكس"، يبدو الموقع وكأنه قد صنع خصيصاً لك ولهويتك البيانية الفريدة. يخاطبك كفرد، له اسم وذائقة وتاريخ مشاهدة وتقييمات تعكس إهتماماتك وأهوائك التي تسعى الشبكة دائماً إلى تدعيمها عبر أنظمتها الذكية.

لكن هذه البيانات، إن كانت قد علمتنا شيئاً في العام 2020، فهو أن سلوكيات مستخدمي "نتفليكس" تتطابق أكثر بكثير مما تتباين. تجلى ذلك في ظاهرة The Queen’s Gambit، السلسلة الأميركية القصيرة التي تصدرت لوائح الأكثر مشاهدة في 63 دولة، وحصدت 62 مليون مشاهدة خلال الشهر الأول من عرضها، كما سببت طفرة غير مسبوقة في ممارسة لعبة الشطرنج وشراء أكسسواراتها. يدعو هذا الإجماع، العابر للجغرافيا والفئات الاجتماعية كما الاتجاهات الثقافية، إلى التشكيك في فردية مستخدم "نتفليكس" وفرادة خياراته وميوله. فهل رغبة المشاهدين هي واحدة في الأصل، وقد نجحت "نتفليكس" في فك شيفرتها أخيراً؟ أم أن منصة العرض وجدت التعويذة المناسبة لإخضاع الرغبات الفردية الى عقل جمعي واحد؟ في الحالتين، ثمة ضرورة لإعادة تعريف الفردية في زمن هيمنة "نتفليكس" وغيرها من عمالقة البيانات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024