مرجعية السيستاني أم مرجعية إرنستو ساباتو؟

باسم المرعبي

السبت 2021/01/02
 
قبيل بدء العصف الذي كانت تعد له الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام حسين، في العام 2003، وفي خضمّ الصراع النفسي الذي وجد كثيرون من العراقيين، مثقفين وسواهم، أنفسهم تحت وطأته، بسبب من مواجهتهم خيارين مُميتين: إما صدام أو أميركا! وإزاء معضلة كهذه، كان هاجس التوجه بالسؤال المصيري إلى الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو، دون سواه، يلازمني، انطلاقاً قبل كلّ شيء، من ثقة بسيرة هذا الروائي الذي قاربَ الأدب بشغف وانضباط العالِم، كما اتصف بحكمته وغنى تجربته الحياتية الأدبية والفكرية والفنية (كان رساماً)، وحتى المهنية، التي ابتدأها كعالم في الفيزياء، فضلاً عن امتداد العمر به، بما يعنيه ذلك ـ كان يبلغ من العمر، عند وقوع الغزو الأميركي للعراق، اثنتان وتسعون سنة ـ يُضاف إلى كل ذلك معاناته ومواقفه المشهودة مع الأنظمة الدكتاتورية في وطنه الأرجنتين، خاصة الفترة البيرونية وما لحقه بسببها من أذى، حدّ تهديد حياته وعائلته. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى ما اضطلع به ساباتو من دور بعد الخلاص من الحكم العسكري الذي تزعمه الإنقلابي الجنرال غالتييري (1981ـ1982)، واختياره من قبل الرئيس الديمقراطي المنتخب راؤول الفونسين رئيساً للجنة الوطنية للمفقودين: 1983ـ1984، التي قدمت تقريراً بآلاف الصفحات، لتُطوى بذلك صفحة الدكتاتورية في الأرجنتين. لكلّ ذلك، كان ساباتو الأكثر أهليةً للـ "إفتاء" بفضّ الإشكال الكبير، على الأقل لي شخصياً. هو ليس ائتماماً أعمى به، رغم كل صفاته المتقدمة، بل نوع من المشاورة، و"مَن شاور الرجال شاركها في عقولها". كان السؤال يدور في ذهني بصيغته التالية: سيد ساباتو، ماذا لو كان دكتاتوراً كصدام حسين يحكمك.. هل تقبل بالتدخل الخارجي، وهو هنا الأميركي، بشكل خاص، للتخلص منه؟

 إنّ الحيرة التي دفعتني إلى التفكير بطَرق أبواب ساباتو قد لخّصها، أيضاً، الصديق الراحل، الشاعر كمال سبتي في إجابته على أسئلة صحيفة "القدس العربي" ضمن الاستطلاع الذي أجرته عند مشارف الحرب على العراق، ونُشر في عدة حلقات، بداية العام 2003، تحت عنوان: دور المثقفين العراقيين في صياغة صورة العراق. وكان كاتب هذه السطور من ضمن الذين وجهت إليهم أسئلة الاستبيان. يقول الشاعر كمال سبتي: ".. فلا الحرب الأميركية حل. ولا الحرب ضد أميركا بدكتاتور ونظام شمولي فاسد، أو من أجل دكتاتور ونظام شمولي فاسد، حل أيضاً". القدس العربي: 16 كانون الثاني (يناير) 2003. لقد عمدتُ في السطور السابقة إلى استخدام مفردة إفتاء رغم إحالتها الدينية الغالبة، لأن مرمى هذا المقال هو استنطاق "الموقف" التاريخي الصامت إن لم أقل المريب للمرجع الشيعي المعروف علي السيستاني، من الغزو الأميركي، إذ، وكما هو معروف، لم يصدر أي رأي أو فتوى منه تقف بالضد من المشروع الأميركي، والذي يعيش العراق اليوم عقابيله وتداعياته، كما المنطقة بأسرها، لتكون العربدة الإيرانية والعمل على استنزاف العراق، على كلّ الصعد، من آثاره المباشرة، فلربما كلمة تحذيرية منه كانت قد كفتِ العراقيين واقع الدمار والتمزق والاستهداف الذي يجدون أنفسهم إزاءه. لم يكن مطلوباً، بأي حال، نُصرة وإدامة نظام كنظام صدام، هذا الذي كان يجب أن يتولى العراقيون أمر معالجته، كما أفدتُ في استطلاع الصحيفة المذكور، الذي دعوت فيه أيضاً إلى تنحي صدام عن الحكم لتجنيب العراق مخاطر الحرب وحذرت من النوايا الأميركية، ومما جاء في أجابتي على أسئلة الاستبيان، المنشورة في القدس العربي بتاريخ 10 كانون الثاني (يناير) 2003: "لو تُركت الخيارات لنا لاخترنا أكثر الحلول سلميةً لإقامة الحكم البديل، ولأجل تحقيق ذلك وتفادي حرب لا يعرف مدى خطورتها سوى الله، ولأجل خروج العراق والمنطقة بأسرها من عنق الزجاجة ولتجنيب الشعب العراقي مزيداً من الآلام والخسائر والدماء، فإننا ندعو من على هذا المنبر أن يغادر صدام السلطة ويترك شؤون تدبير وإدارة العراق إلى أهله (.....) إنّ من شأن استجابة النظام لهذا المطلب المصيري للعراقيين أن يلغي خيار الحرب ويفوّت على الأمريكان مشاريعهم في رسم خارطة جديدة للمنطقة".

على الرغم من الثقل المتوقع لكلمة السيستاني لو كانت قد قيلت، لكن من المنطق أيضاً الافتراض، في الوقت ذاته، العكس، أي انعدام تأثير كلمته على الخطط الأمريكية الموضوعة بشأن العراق، وليكن ذلك، فالحديث هنا عن موقف، هو أخلاقي، قبل كلّ شيء ووطني، ولا أعرف إن كان لمثل هذه الأخيرة من وجود في قاموس المرجعية وأضرابها. وإذا كانت مبادئ الإمام علي ذاته، الذي تجاوره المرجعية، وتتحدث باسمه طوال دهور، لم تُستحضر في موقف دقيق كهذا، كما في قوله المعروف: "ما غُزي قوم قطّ فى عقر دارهم إلا ذُلّوا"، فأي مبادئ تُسيّر المرجعية إذاً؟ وهو ما يُثير الكثير من الغبار على خلفية الصمت السيستاني بخصوص الموقف السابق وما لحق من مواقف هي مفترقات مصيرية، يواجهها العراق كلّ يوم، إن لم يكن كلّ لحظة، منذ العام 2003، رغم المناشدات المتكررة بقول شيء!

وعوداً إلى لبّ الموضوع في البحث عن جواب لدى ساباتو في المسألة العراقية الحرجة، فقد عثرت على الجواب المنشود في العام ذاته الذي شنت فيه أميركا حربها على العراق، فهل كان ذلك محض مصادفة، أم ترتيباً قدَرياً مسبقاً؟ فالجواب وإن كان قيل قبل ذلك بسنوات وفي مناسبة مختلفة إلا أنه كان ما يشبه الرد المباشر على السؤال المؤرق، وقد وصلني دون أن أتكلف عناء قطع المحيط لملاقاة صاحبه أو حتى الكتابة إليه عبر البريد الإلكتروني، الذي لا أظن أنه كان يحبذ استخدامه، لعدائه الشديد لما يسميه الوثنية التقنية التي سلبت الإنسان إنسانيته. لقد أعفاني العثور على الجواب من الاتصال المباشر بالرجل وما يعنيه ذلك من حرج، فساباتو معروف بكآبته وميله إلى العزلة وملازمة بيته بصحبة قط أطلق عليه اسم "فرويد" وكلب دعاه "يونغ". لقد انبثق الجواب أمامي من ثنايا حوار كارلوس كاتانيا مع الكاتب، والمعنوَن: إرنستو ساباتو بين الحرف والدم. والصادر عن دار المدى، بترجمة عبد السلام عقيل. كان جواباً مفصلاً بصدد موقفه من حرب الأرجنتين مع إنكلترا بسبب جزر الفوكلاند المتنازع عليها.

وعلى الرغم من أنّ المجلس العسكري الإنقلابي والذي كان الكاتب، بطبيعة الحال، يعاديه، إلا أنه مع ذلك اختار الوقوف معه، لطبيعة الوضع وحساسيته، وهو وضع مركّب، على أية حال. ولأهمية الجواب ـ الموقف أعمد هنا إلى اقتباس نصه، رغو طوله، لتبيُّن الحجج التي استند إليها الكاتب وساقها في موقفه ذاك: "كان وضع حكم العسكريين لا يطاق، حتى أن كثيراً منهم فكر في إنقاذ شرف الزي الذي يرتديه بشن حرب مالفيناس،(تسمية الجزر بالإسبانية) لأن تلك الجزر تشكل بالنسبة للأرجنتينيين ألماً مستمراً منذ قرن ونصف، ومؤشراً على الإمبريالية الطاغية. لذلك لم يكن بوسع الآخرين أن يدركوا كيف يمكن أن نتوحد نحن الأرجنتينيين، حتى مع أعدائنا في المجلس العسكري من أجل استرداد تلك الجزر. وكنت أقول لهؤلاء: إن عمر المجلس العسكري ست سنوات، وعمر مشكلة مالفيناس مائة وخمسين سنة، وكان أمراً مشيناً أن تُخضعنا إنكلترا لا لشيء إلا لأنها حظيت بدعم ثالث أكبر أسطول في العالم، وبمساندة الإمبريالية الأمريكية. لو أعلنت موقفاً ضد حربنا، لا لسبب إلا لكي لا أكون طرفاً في لعبة العسكريين الذين كانوا في السلطة، لشعرت بالخزي. لقد وقفنا جميعاً، أطفالاً وكباراً، أغنياء وفقراء مع الحرب، بقدر ما كانت غير متعادلة، وبقدر ما كان مصيرها النهائي هو الهزيمة. ليست العبودية مشرفة أبداً....". على ضوء جواب ومنطق كهذا، يندى سؤال: ألم يكن حرياً بالسيستاني أن يتحلى بروح ووعي وشجاعة ساباتو في الوقوف ضد أخطر عدوان يتعرض له بلد في التاريخ الحديث. ليس النصر أو الانهزام، هما ما يجب النظر إليهما، بدءاً، وإنما الموقف في ذاته. وكما ردد ساباتو، العبودية ليست مشرفة أبداً. 

ليت السيستاني كان قد قرأ ساباتو وتعلّم منه! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024