"وهم صاغرون/ حكايات عن أقباط مصر"..ميراث الفتنة وغضب الماضي

وجدي الكومي

الأحد 2020/05/10
 

استغرقتني قراءة هذا الكتاب بشغف وفضول في البداية نظراً لتوثيقه العديد من مشاهد التفرقة والتمييز الطائفي، ونظرا لأن كاتبه هو الروائي والمترجم المصري عادل أسعد الميري، الذي له باع طويل في رصد مظاهر التفرقة الطائفية، فكان إقبالي على قراءة كتابه "وهم صاغرون – حكايات عن أقباط مصر" الصادر حديثا في القاهرة*، نابعاً من فصوله الأولى، التي يعود فيها مؤلفه إلى بدايات التحولات.. ومتى بدأت الطائفية تتغلغل في نسيج المجتمع المصري؟

يبدأ الكتاب من سنة 1962، حينما كان مؤلفه في التاسعة من عمره، وقتها كان تلميذا في مدرسة "القديس الشيخ المحترم لويس" في إشارة إلى لويس التاسع الذي أسره المصريون في دار ابن لقمان بالمنصورة، كان عادل أسعد الميري واقفاً على الفصل لتسجيل أسماء التلاميذ المشاغبين، كتب اسم أحدهم، فتوجه نحوه الولد، وطلب منه مسح اسمه، ومنحه "مصحفاً"، حينما عاد الطفل الذي كانه مؤلف الكتاب إلى بيته، ودفع بالكتاب لأمه، فلامته صائحة: دا مش بتاعنا.

يروي الميري عن هذه الواقعة: لم يكن زميلي يعرف أنني مسيحي، ولم أكن أنا أعرف أنه مسلم، كنا في التاسعة من العمر، ولم نكن نعرف أن عادل أسعد بولس هو مسيحي، وأن محمد حامد البسطويسي هو مسلم، ولم نكن نضع هذه المسألة في اعتبارنا.

يحكي الميري في مستهل الكتاب عن امتناعه خلال شهر رمضان عن تناول الطعام خلال فسحة المدرسة، مع زملائه الذين كانوا يمتنعون هم أيضا، لكنه يحكي أيضا عن تعجبه آنذاك من أسباب امتناع زملائه المسلمين تماماً عن الطعام، بينما بإمكانهم أن يأكلوا مثله سندوتشات الفول بدلا من الجبنة، كما يفعلون في بيته، يحكي عن تجاهله الخلافات الفلسفية بين أمه الأرثوذكسية التي كانت تصوم، وأبيه البروتساتني الذي لم يكن يصوم فكان يمتنع عن الصيام هو الآخر.

ومن الحكايات التي يذكرها وتعد الإرهاصات الأولى للطائفية، حينما بدأ التلفزيون المصري في بث الأذان بعد سنة 1975، كان ذلك إيذانا بنهضة المد السلفي والإسلامي في مصر، بعد انتهاء معركة مصر العسكرية لاسترداد الأرض، وقتها كانت مشاعر مؤلف الكتاب بريئة، إذ لم يرصد بفطرته أي إلحاح إعلامي على المسألة، ولم تكن هناك أية منقبات أو محجبات في أي مكان على الإطلاق، والتلفزيون لم يكن يبث أي تلاوة للقرآن إلا في بداية الإرسال، وفي نهايته، لكنه بدأ يلحظ أن المسيحيين ليسوا مصريين تماماً، لأن إحدى مجلات الأطفال "مجلة سمير" كانت تصدر يوم الأحد من كل أسبوع، وكانت تتجاهل احتفال الأطفال المسيحيين بعيد القيامة، بينما تخصص العديد من الصفحات في العدد نفسه للاحتفال بشم النسيم.

ولكن مشهد التعصب الرسمي الذي ظل غائراً في قلب الميري هو ما تعرض له والده، حينما حصل على بكالوريوس الطب عام 1943، وكان الثالث على الدفعة، ولم يُعيّن معيدا لأنه مسيحي، يذكر مؤلف الكتاب أن والده حكى له أن ابن المنياوي باشا حصل على ترتيب "الثاني عشر" على الدفعة، وهو من ظفر بالتعيين، ابن المنياوي هذا كان مسيحياً أيضا، لكنه بالإضافة لذلك كان ابن باشا، فنال التعيين، وحينما سجل والد المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في المسالك البولية، وقتها كان رئيس قسم المسالك مسيحياً، لكن لسوء حظ أبيه، ترك رئاسة القسم سنة 1948، قبل مناقشة الأب للرسالة، وجاء طبيب مسلم مكانه، جهر بمقولة: مفيش مسيحي هياخد عندي الدكتوراه.

ظل أبوه يرسب في الامتحانات عشر سنوات حتى خرج الطبيب المسلم إلى المعاش، فحصل أبوه على الدرجة العلمية سنة 1958.

هذه الحكاية التي تدور أحداثها في الأربعينيات والخمسينيات، تكشف ببساطة أن المسألة الطائفية لم تبدأ فجأة في السبعينيات مع مجيء السادات، وانتهاء المعركة وفتح الباب للتيارات الإسلامية لممارسة أعمالها، بل لها جذورها الممتدة في المجتمع المصري إلى الأربعينيات، أي قبل ثورة 23 يوليو 1952.

وفي فصل "امرأة كافرة" يحكي مؤلف "وهم صاغرون" عن رفض أولياء أمور التلاميذ الذين كان يدرس لهم في مدرسة القنصلية الفرنسية، لموضوع عن نوال السعداوي، يتناول نصاً كتبته في كتابها "رحلة إلى أفريقيا" وعلى الرغم من أن الموضوع لا يتناول أية موضوعات دينية، إلا أن أولياء الأمور رفضوا أن يدرس أبناؤهم موضوعات كتبتها سيدة كافرة، ويُعلق مؤلف الكتاب على الواقعة بقوله: حكم أولياء الأمور على أولادهم باعتناق فكرتهم دون الحق في المناقشة، فهؤلاء الأولاد الذين من المفترض أنهم في مدرسة فرنسية يتعلمون التفكير النقدي الحر، إلا أن تأثير بيئتهم الثقافية الممتزجة بوسائل الإعلام المصرية أقوى عليهم من تأثير المدرسة.

وعلى الرغم من أن عادل الميري يبدو محقا حينما ينتقد أسلوب المناقشة بين المصريين بأنه عبثي وجدال ضائع، لأن المصريين يمتلكون الحقيقة المطلقة، مستعيراً عبارة الفيلسوف المصري مراد وهبة "مُلاك الحقيقة المطلقة"، لأن أي مناقشة ستفتحها لن تؤدي إلى شيء، فالعقلية المصرية لا تقبل المناقشة، مقترحاً أن يحدث التغيير بعد أجيال عديدة متتالية حتى نتمكن من إصلاح العطب الموجود في التفكير المصري، على الرغم من ذلك، فإن بعض الموضوعات التي عرضها في الكتاب، حوت مغالطات تاريخية تتعلق بالحروب الصليبية، ودينية مرتبطة بالفهم للنصوص القرآنية نفسها. ففي الفصل الذي عنونه الميري "التراث المسيحي" يأخذ بظاهر النص القرآني "وأنزلنا على عيسى الإنجيل" فيقول: بالمناسبة أنا لم أفهم أبدا كيف يقول القرآن "وأنزلنا على عيسى الإنجيل"، كأن النص الإنجيلي نزل مكتملا على مرة واحدة، أو منجماً على مرات عديدة كما هي الحال في نزول القرآن على النبي محمد، في حين أن الأنجيل لم يظهر إلى الوجود إلا بعد وفاة عيسى بثلاثين عاما، كما أن الأناجيل كتبت على يد أربعين شخصاً، فهل يقصد النص القرآني أن نصوص الإنجيل قد نزلت على كل هؤلاء الأشخاص على مدار كل هذه السنوات المئة؟

تتحول استفسارات الميري في الكتاب إلى أسئلة مفتوحة متروكة من دون إجابات، يُقصد بها إثارة الجدل حول المعنى القرآني، وإن كان من السهل عليه أن يبحث عن المجاز المقصود به في النص القرآني، فالآية لم تقصد الإنزال بالمعنى الفعلي، إنما ما أوحى به الله لعيسى كي يحلل لقومه ما حرموه على أنفسهم، مكملا ما جاء به موسى لبني إسرائيل، ولو قرأ الميري ما جاء في إنجيل "متى" من آيات تقول: لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ‍النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ" متى ٥:١٧، لفهم مقصود الآية الكريمة بالإنزال.

ثم إن القرآن لم يستخدم هذه الآية وحدها في الإشارة إلى نزول الإنجيل على عيسى، بل استخدم فعلا آخر وهو فعل التعليم: "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ... (49) آل عمران، أي أن الله علّم عيسى الإنجيل، أي أسرار قومه ليقيم عليهم الحجج بنصوصه، فلماذا تجاهل الميري هذه الآية واكتفى فقط بآية "وأنزلنا على عيسى الإنجيل".

أما المغالطات التاريخية فهي تتوزع في الكتاب على أكثر من مستوى، أولها، يتركز في الفصول التي ينتقد فيها الميري أفعال الجاليات العربية المسلمة في أوروبا، وتخوفه من أسلمة أوروبا، منتقدا بشدة الجالية المغربية والجزائرية المسلمة في فرنسا، متخيلا مستقبلا كافكاويا ينتشر فيه الإسلام في فرنسا، للدرجة التي تصل إلى انتخاب رئيس مسلم لفرنسا، داعيا الفرنسيين لانتخاب مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2022، كي تتمكن من تحقيق سياسات بعيدة النظر على حد وصف مؤلف الكتاب في وضع أكبر قدر من العراقيل أمام العرب المغاربة المسلمين لمنعهم من الذهاب للإقامة في فرنسا، ومن تحويلها إلى أفغانستان جديدة.


وعلى الرغم من أن من حق مؤلف الكتاب في ألا يرى فرنسا، تتدهور بأفاعيل ستة ملايين مسلم على حد قوله، يتسببون في تغيير هوية البلد، الذي اعتاد زيارته كل عام وقضاء أشهر فيه بحكم كون زوجته فرنسية، إلا أنه(اي الميري) لا يستعرض الأحداث التاريخية الحقيقية التي أدت إلى هجرة هذه الأعداد إلى فرنسا. لا يستعرض مثلا تاريخ الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، والنهب والسلب لثروات الجزائر والبلاد التي استعمرها الفرنسيون في إفريقيا. يقضي الميري جل وقته على اليوتيوب راصداً وقائع التمييز الطائفي في أفغانستان وباكستان وخصص لها فصولا طويلة، لم يتعثر أبدا في فيديو بعنوان "الاستعمار الخفي.. كيف تمتص فرنسا خيرات إفريقيا" الذي يتناول كيف أوكل ديغول منظومة استعمارية في فرنسا العام 1958، لرجلين هما: بيير غيوما وزير المحروقات، وجاك فوكار أمين عام الإليزيه المهندس الحقيقي لشبكة فرنسا إفريقيا، نجحا خلال فترة قصيرة، في الصيغة الأكثر حداثة للاستعمار الفرنسي لإفريقيا، ومنها "تدبير الانقلابات.. تمويل حركات التمرد.. الاغتيالات السياسية"، جميعها كانت مشروعة لشبكة "فوكار" وضربة البداية كانت في غينيا التي حصلت على استقلالها عام 1958، بفضل رئيسها أحمد سيكوريتي المناهض لفرنسا، فمعاقبته كانت أولى مهام هذه الشبكات، فأغرقوا غينيا بعملات مزيفة لتدمير الاقتصاد، وسحبوا أصحاب رؤوس الأموال ودربوا المعارضين الغينيين للإطاحة بسيكوريتي، لكنهم فشلوا.


وكي لا نذهب بعيدا، ففي الكاميرون، منحت فرنسا الضوء لاغتيال المعارض فليكس مونييه بجرعة من التاليوم السام، دعما لحليفها الرئيس أحمد حجو. وتدخلات فرنسا لم تكف حتى بعد انسحابها في القارة الإفريقية، فكيف يخشى الميري على مستقبل فرنسا وهويتها الأوروبية، متجاهلا تاريخها المليء بالتدخلات في مقدرات الشعوب لإفساد نموها وتقدمها. كيف يمر هذا دون أثمان تدفعها فرنسا باستقبال لاجئين ومهاجرين من البلاد التي حطمتها بتدخلاتها وأفسدتها بعبثها بأمنها!؟


المغالطات التاريخية التي على المستوى الأبعد من ذلك هو ما يورده الميري في آخر فصول الكتاب من الإشارة الى أن الحملات الصليبية انطلقت من أوروبا رداً على احتلال العرب للأندلس زهاء ثمانية قرون، إذ يشير الميري إلى أن العرب حينما وصلت جيوشهم إلى الأندلس، واحتلوها، انطلقت الحملات الصليبية من أوروبا إلى القدس لاحتلال بيت المقدس، لتشتيت العرب عن الأندلس وهي مغالطة عجيبة من باحث وقارئ نهم للتاريخ مثل عادل الميري، بل ومترجم كبير أيضا، فمبراجعة أي كتاب تاريخ صغير، سيعرف مؤلف "وهم صاغرون" أن الحملات الصليبية انطلقت من قلب أوروبا إلى القدس لأنه ببساطة بداية الحروب الصليبية جاءت في فترة كانت فيها أوروبا قد تنصرت بالكامل تقريباً بعد اعتناق الفايكنغ والسلاف والمجر للمسيحية، فكانت غالبية المحاربين الأوروبيين قد أصبحوا بلا عدو لقتاله، فصاروا ينشرون الرعب بين السكان، وتحولوا إلى السرقة وقطع الطرق، فكان من الكنيسة أن حاولت التخفيف من ذلك بدعوتهم للاهتمام بموضوع الأرض المقدسة التي فتحها المسلمون منذ قرون، وبدأت الكنيسة تلعب دوراً في الحرب الاستردادية في إسبانيا حيث قام البابا إسكندر الثاني عام 1063 بمباركة المحاربين الذاهبين إلى الأندلس، هذا صحيح كما يشير إليه عادل، لكنه ليس صحيحا تماما، إذ أن حادث حرق كنيسة القيامة التي جرت بأمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي العام 1009 كانت الشرارة الأولى لانطلاق الحملات الصليبية لاحقا.


قارئ الكتاب بينما يقرأ تبرير مؤلفه للحملات الصليبية على القدس، بأنها كانت رداً على احتلال الأندلس، يسأل نفسه: لماذا لم تتوجه هذه الحملات إلى الأندلس مباشرة وجاءت إلى القدس؟ وهو ما لم يجب عليه بالطبع المؤلف، بل عرج على مسائل "من بدأ بالاعتداء على الآخر.. مجيباً: المسلمون.

تقول القاعدة القديمة: حذار وأنت تقاتل الوحوش، من أن تصبح وحشا مثلهم. كانت الفكرة التي وصلت الي بعد الانتهاء من الكتاب: من المؤكد أننا لا يمكن أن ننكر ما فيه من وقائع طائفية جرت في مصر مؤخراً، ومنذ عقود، وهكذا وجدتني أكتب في نهاية الكتاب: لا تكن متطرفاً مثل من تنتقدهم.

*صدر عن دار ميريت

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024