"أبي فيودور".. ما وراء إرث ديستويفسكي العظيم

وجدي الكومي

الثلاثاء 2020/03/03
الفكرة الأكثر إلحاحاً في ذهن قاريء هذا الكتاب، هي أن مبدعاً كبيراً مثل فيودور ديستويفسكي لم يكن فقط موفقاً في تخطي كل مشكلات وعراقيل حياته في سبيل إبداعه الكبير والممتد، الذي خلفه للإنسانية، بل إنه أيضاً رُزق بابنة أحبّت ما كتب، وتعاملت معه بصفته منتجاً يجب أن يُحتفى به، وبعظمته، فعملت على تخليده بكتابة سيرة حياته، وكشفت في هذه السيرة، ما وراء إرث أعماله المهمة، تاركة للباحثين في سيرته وأدبه، عملاً لا يقل أهمية عن مذكرات زوجته "آنا جريجوريفنا دستويفسكايا".


الكتاب الجديد الذي بين أيدينا، ترجمه المصري أنور إبراهيم، بعنوان "أبي فيودور دستويفسكي" للابنة لوبوف فيودوروفنا دستويفسكايا التي تتناول سيرة أبيها عبر ثلاثين فصلاً، تبدأها بتشريح أصول ديستويفسكي وتكشف أنه يتحدر من أصول ليتوانية، وليست روسية خالصة كما يظن البعض.

وهذه البداية الصادمة للكتاب تنجح بسهولة في أن تأخذ قارئه في رحلة عبر تاريخ ليتوانيا والأمراء النورمانديين الذين حكموها، وأصولهم. فتشرح أن ليتوانيا، من بين كل الأراضي الروسية، هي الأكثر جذباً للاهتمام. ينحدر الليتوانيون من مزيج من العِرقين السلافي والفنلندي التركي، مثلهم في ذلك مثل الروس. لكن ليتوانيا صارت، في القرن الخامس عشر، إمارة عظمى تضم أوكرانيا كلها وجزءاً كبيراً من روسيا، ولعبت دوراً مهما بين الدول السلافية، وكان لديها بلاط رائع متحضر، والنبلاء الروس الذين كانوا يحاربون استبداد قياصرتهم، فرّوا إلى ليتوانيا حيث استقبلوا استقبالاً ودياً.

نعرف في الفصل الأول من الكتاب أن أسلاف ديستويفسكي ينحدرون من محافظة مينسك وكان آل ديستويفسكي من الإقطاعيين النبلاء، الكاثوليك المتسامحين، وعندما جرى ضم ليتوانيا إلى روسيا في القرن الثامن عشر، لم يكن الروس يعرفون آل ديستويفسكي، لكن جد "لوبوف"، "ميخائيل أندرييفييتش" تشاجر مع أبيه، لرغبة الأخير في أن يعمل بالرهبنة ويدخل الدير، ففرّ الجد إلى موسكو حيث درس الطب، وصار طبيباً.

ما أن أنهى جد "لوبوف"، مؤلفة السيرة، دراسته في أكاديمية موسكو الطبية، حتى التحق بالجيش طبيبا عسكرياً، وشارك في الحرب التي اندلعت العام 1812 لتحرير روسيا من العدوان الذي شنه نابليون عليها. يولد ديستويفسكي في بيت فخم في موسكو يشغله والده ميخائيل الذي صار كبير الأطباء في المستشفى الحكومي الكبير في موسكو. في هذا البيت، يتعرّف ديستويفسكي للمرة الأولى على بسطاء الناس من الروس، والذين حرص أبوه على أن يبعده عنهم. كان الجد "ميخائيل" يشك للغاية في الحضارة الروسية، ويربي أطفاله على الطريقة الأوروبية، فورث ديستويفسكي عن أبيه حب اللغة الفرنسية والقراءة بها، وتعلم القراءة بالألمانية رغم أنها لم تكن آنذاك هي الموضة في روسيا.

في شبابه، أرسل "ميخائيل" أبناءه "فيودور" و"ميخائيل" إلى مدرسة الهندسة، في هذا الوقت كان "فيودور" يبلغ من العمر ستة عشر عاماً، بينما كان "ميخائيل" يبلغ سبعة عشر عاماّ، وقد تربيا في عزلة عن العالم. الأول كان يؤلف رواية مستوحاة من الحياة في "فينيسيا"، بينما شقيقه يكتب الشعر. سيفترق الشقيقان، فيُجبر "ديستويفسكي" على دخول كلية الهندسة في قصر بافل الأول في بطرسبورغ، بينما يُرسَل شقيقه "ميخائيل" إلى الدراسة بفرع المدرسة في مدينة أخرى، ليجد ديستويفسكي نفسه وحيداً وسط سخرية أقرانه الذين يعتبرونه جاداً أكثر من اللازم، بينما ديستويفسكي يبادلهم الاحتقار لجهلهم، إذا كان يراهم مخلوقات من فصيلة أخرى. تنقل "لوبوف" عن أبيها قوله: "كنت مذهولاً من غباء آرائهم وألعابهم ومشاغلهم.. أطفال في سن السادسة عشرة لا ينفكون يتحدثون عن الوظائف التي تدر ربحاً وفيراً".

صرع
يصاب ديستويفسكي بأول نوبة صرع حينما يتناهى إليه نبأ مقتل أبيه.. تحكي لوبوف: "ذات صيف غادر جدي ضيعته في داروفويه، متجهاً إلى ضيعته الأخرى في تشيرماشينا، لكنه لم يعد مِن هناك، في ما بعد عثروا عليه مخنوقاً بوسادات على مقعد عربته، اختفى الحوذي ومعه الخيول، وهرب فلاحون من الضيعة، وفي الاستجواب اعترف عدد آخر من الفلاحين بأنها كانت جريمة قتل بدافع الانتقام.

كان فيودور يحب الفلاحين وبسطاء الناس، ولم يتصور أن في مقدورهم قتل والده. وتتناول لوبوف في هذا الفصل، الأمراض العصبية التي ضربت أفراد العائلة، فإدمان الخمر لدى جدها لعنة حلت بجميع أبنائه، ميخائيل عمها ونيكولاي الأصغر ورثا هذا الداء. أما مرض الصرع الذي أصاب والدها ديستويفسكي، فالأغلب أنه كان وراثياً، فيما وقعت عمتها أسيرة البُخل.

تخرج ديستويفسكي في مدرسة الهندسة، وبدلاً من أن يستمر في العمل في الإدارة الهندسية العسكرية، تقدم باستقالته. كانت وفاة الأب قد شجعته على هذه الخطوة، بالإضافة إلى طموحه الأدبي الذي تفجر أكثر بعد تخرجه واستئجاره شقة وخادماً مع صديقه "جريجوروفيتش". حاول ديستويفسكي أن يتكسب من الترجمة، لكنه عجز عن سداد احتياجاته، فساعدته خالته كومانينا وأوقفت عليه راتباً شهرياً، بعدما تزوجت من أحد الأثرياء. يمضي قارئ الكتاب في رحلة مع سيرة ديستويفسكي، حيث يظهر لنا أسباب الكثير من المقولات التي طعنت فيه، ومنها أنه كان مسرفاً، تالفاً. وتميط ابنته اللثام عن هذه المقولات وتنفيها، بالإشارة إلى أنه لم يكن منغمساً في حياة مستهترة، بل كان كادحاً دؤوبا يقضي معظم أيامه متحدثاً إلى أبطاله، وحينما انتهى من روايته الأولى "الفقراء"، حملها صديقه "جريجوريفتش" إلى الشاعر نكراسوف الذي كان مشرفا آنذاك على مجلة أدبية، فإذا بالأخير، وبعد بضعة فصول، يتوق إلى رؤية صاحب هذا المخطوط الرائع، ويذهب إليه في الخامسة صباحاً ليتعرف عليه.


(مكتبه في سان بطرسبورغ)

أصبح ديستويفسكي كاتباً مشهوراً بمجرد نشر روايته "الفقراء"، فإذا بالغيرة الأدبية تشتعل حوله. لكن، بصرف النظر عن حكايات النميمة والحقد الأدبي، فإن ميزة هذا الجزء من الكتاب أن ابنته "لوبوف" تحلل تحليلاً رائعاً من أين استقى أبوها روايته الأولى، بقولها: "كانت روايته الأولى فائقة الروعة بلا شك، لكنها ليست على أي حال رواية أصيلة، بل هي من ثمار "غوغول" الذي كان بدوره متأثراً بالأدب الفرنسي في ذلك الزمان، ممثلاً في (رواية) البؤساء في شخصية جان فالجان المثالية".

في المعتقل.. ضد الجمهورية
تحكي "لوبوف" أيضاً عن اشتراك ديستويفسكي في مؤامرة "بتراشيفسكي" السياسية التي أودت به إلى المعتقل، ثم عفو القيصر عنه في اللحظة الأخيرة قبل تنفيذ إعدامه مع أربعين شخصاً. تحكي الابنة عن صعوبة تفسيرها لانضمام ديستويفسكي إلى خصوم القيصر، لأنه لم يكن يعرف روسيا جيداً، وكيف جعلته سنوات الاعتقال في سيبيريا يتحول إلى النقيض، خاصة بعد وقوفه أمام المحكمة العسكرية، واقترابه من الموت في التمثيلية التي حاكها "نيكولاي الأول" بتهيئة المحكوم عليهم بالإعدام بأنهم فعلاً سيعدمون، ثم صدور العفو عنهم في اللحظة الأخيرة قبل ضرب الرصاص. تشير لوبوف إلى أنه، لولا هذه الكوميديا التي صنعها القيصر، لما أصيب أبوها بالصرع بهذه الصورة المريعة. وفي فصل "المعتقل"، سادس فصول الكتاب، تحكي الابنة كيف اختار ديستويفسكي طريق الأخوة باسم المسيح، والارتباط بالشعب والتعرف على المواطنين الأصلاء، وكيف احتواه السجناء، وعاملوه معاملة طيبة، رغم أنهم كانوا ثلة من المساجين واللصوص والقتلة. هناك، تعرف ديستويفسكي أكثر على الروس، هجين مدهش من السلاف والمغول استطاعوا غزو سُدس الأرض، فتعلم منهم كيف أنهم مغايرون لصورتهم القذرة المتوحشة، وكيف أنهم في الحقيقة وديعون طيبون، وهكذا أصبح الاعتقال منقذ ديستويفسكي من الجنون ومن الانتحار.

أصبح ديستويفسكي، في المعتقل، ضد الجمهورية وأفكار التحول إليها، وتحول مدافعاً عن الكنيسة، بل ودعا إلى أن تصبح كياناً مستقلاً يرأسه بطريرك. رأى ديستويفسكي أن الدِّين يلعب دوراً مهماً في روسيا، ودرَس الملكية، وفهم أخيراً أن القيصر سيكون أفضل من رئيس الجمهورية، لأن لديه مهابة وهالة التتويج، فيما سيعامل الشعب، الرئيس، بريبة. وهكذا أصبح ديستويفسكي مَلَكياً وعدواً للكُتّاب الانتليجنسيا في بطرسبورغ، المحاربين ضد النظام القيصري. تقول لوبوف: "بينما أبي في المعتقل عاكفاً على دراسة الشعب الروسي، كان هؤلاء السادة يواصلون الثرثرة في صالونات بطرسبورغ، مستمدين معلوماتهم عن روسيا من الكتب الأوروبية".

بعدما أصبح مؤمناً عميقاً بالمسيح، وهو الذي لم يفارق الإنجيل طيلة سنوات اعتقاله الأربع، أصبح ديستويفسكي الآن مستعداً لإبداع أعماله الكبرى التي لم يتمكن من كتابتها قبل المعتقل. خرج بروح تواقة للكفاح، مدركاً أن الدواء الناجع من اليأس، هو العمل الشاق، وقد فهم الآن الحكمة من ابتلاء الاعتقال. تنقل لوبوف عن ديستويفسكي قوله، وهو يخاطب الله بشجاعة: "فلتعذبني، إذا كان ذلك سيضاعف موهبتي ويزيد تأثيري في الناس. لا ترحمني، سأتحمل كل شيء، فقط من أجل أن تتحقق القضية التي أرسلتني إلى الأرض من أجلها".

الزوجة البشعة
يتزوج ديستويفسكي من امرأة بشعة تستولى على قلبه بعد أشهر من خروجه من السجن. أرملة ضابط معتل الصحة، تكتب لديستويفسكي الذي صار هو الآخر ضابطاً منهياً فترة اعتقاله بالخدمة في الجيش. كان ديستويفسكي بالنسبة لها صيداً ثميناً، فهو كاتب موهوب، ولديه عمة ثرية في موسكو، تلك المرأة البشعة التي تحكى لوبوف قصتها، هي ماريا ديمترييفنا، زوجة ديستويفسكي الأولى التي لم تنجب له أطفالاً، بل كانت تخونه حتى عشية زفافها عليه، واعترفت بخيانتها له وهي في أيامها الأخيرة على فراش المرض.

تحكي "لوبوف" عن أبيها قائلة: "لعل أبي نفسه كان يحتقر نفسه، على سذاجته وعلى ثقته المفرطة، وعلى أنه اكتشف الخيانة ولم يقتصّ من الخونة".

يحوي الكتاب فصولاً مهمة، تتناول فيها "لوبوف" الابنة، قصة اقتران أبيها بأمها "أنَّا"، بعد فترة من التعارف المريرة ذاقت خلالها أمّها مرارة الإحباط بسبب فارق السن بينهما، وأنه كان يعتبرها أقرب إلى آلة كاتبة، إذا إن أمها "أنَّا" كانت قد ذهبت إليه لتؤدي وظيفة "كاتبة الاختزال" التي ستعاونه في كتابة أعماله. وقبل ذلك كانت شديدة الإعجاب بأعماله، لكن ما أن التقته، حتى صدمها مزاجه المتقلب. تحكي أيضاً عن تقلب أخلاقه، وتحوله وهو في الأربعين، ليرتكب الحماقات، ومنها الهوى الجامح بالروليت. كان يرتوي بالسعادة حينما يربح، ويقع في هوة اليأس حينما يخسر. قبل أمها "أنَّا"، أحبّ طالبة عابثة اسمها "بولينا"، وتبعها إلى نابولي وروما وتسببت في تعاسته، إذا أنها كانت تغازل كل رجل يصادفها في طريقها، وصوّر أباها هذه الرحلة في ما بعد في روايته "المقامر".

كتاب "أبي فيودور" ليس مجرد سيرة كتبتها ابنة عن أبيها، بل هو أيضاً سيرة كاشفة لأحوال الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وتحولات الأدباء الروس، والعلاقات بينهم والأجواء التنافسية، بين تورغنيف المتغطرس الساخر دوماً، والمتهكم على ديستويفسكي، وأجواء المحبة والصداقة العميقة التي جمعت "ديستويفسكي" و"تولستوي". بل إن "لوبوف" خصصت فصولاً كبيرة للحديث عن أصول عائلتها، وأبيها، والظروف المادية التي طحنته بعدما مات شقيقه "ميخائيل" وتحمّله لديونه. خصصت أيضاً فصولاً مماثلة حكت فيها عن الأجواء العصيبة التي عاشتها أمها "أنَّا" بعد زواجها من ديستويفسكي بسبب كراهية أبناء وبنات عمها "ميخائيل" للزوجة التي ستستحوذ على مكاسب ومنافع الاقتران من عمهم الكاتب الشهير، وكيف حاولوا إفساد حياتها الزوجية، لولا الرحلة التي نظمها الثنائي إلى أوروبا لفترة تجاوزت العامين، وأنقذا بها زواجهما، بل وأنجبا أطفالهم خلالها.

من النادر أن نجد كتاباً يؤرخ لسيرة أديب عملاق مكتوب بواسطة أحد أقاربه، ويكون شديد الإمتاع، كهذا الكتاب الذي خطّته "لوبوف" عن أبيها، بل ويحوي أيضاً تعليقات شديدة الحساسية عن أدبه، إما كاشفة لمناطق تأثره بالآداب العالمية في أعماله الأولى، ومعظِّمة ومحتفية بأعماله الأشهر مثل "الجريمة والعقاب" و"الزوج الأبدي" وغيرها، ورابطةً بين شخصياته وبين الشخصيات الحقيقية التي استلهمها. ومن هنا أهمية سيرة ابنة ديستويفسكي، التي لم تستطع أن تحقق حلمها في المجد الأدبي، لكنها اشتهرت بهذه السيرة التي صدرت للمرة الأولى بالفرنسية العام 1920.

(*) صدر في مصر عن الدار المصرية اللبنانية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024