محمد خضير... طِرس بغداد

المدن - ثقافة

الإثنين 2020/11/16
باسمِ بغداد، العاصمة القديمة، أضافَ الفنّانون المجدّدون لوحات/مطويّات دفتريّة متراكمة على طِرس بغداد التقليدي: تشطيبات وتأسيسات وتدوينات تبعثُها من جديد، مدينةً مقاوِمةً عواملَ التقادُم والخراب.

ويبدو هذا التعارض في خاصيّة الطِرس (المحو والكتابة على مراحل بأدوات مختلفة) مثيراً للقلق والحيرة إلى حدّ لا يمكن التكهن بتوافقه مع واقع الحال وفُرَص الحاضر. فلعلّ في تصفّح دفاتر الفنّان حسين الطائي، ومنها اللوحتان المرفقتان، يكمن مفتاح الجواب على إشكالية الطِرس الضائع تحت الخرائب: هل يمكننا تجديد دخولنا الى عاصمة الأمس من المنفذ نفسه دون خوفٍ أو حيرة؟ وهل تجوّزُنا دفاترُنا/ أطراسُنا تخطّي عتبة المخاطر؟ وكم يطول الانتظار؟

ما يؤلم في هذه الأعمال التطريسيّة، بقدر ما يُدهِش الحسَّ والوجدان، جرأتُها وقطعُها الحادّ لتأريخية المسار الفني المنتظم والمألوف. إنها تشير فقط إلى ما لا يمكن تصويره من بقايا عمارةٍ تقليدية: قبّة، عَقد، عمود، شرفة خشب، نافذة بزجاج ملوَّن.. كما لا يجرؤ فنّان الطِرس الجديد على إعادة خطّ الزوال إلى الوراء، بعد غروبٍ محتّم لتاريخ العاصمة الطويل. ذلك من المُحال. بغداد مكانٌ لا يَنسخُ نفسَه مرتين، بتجديدات وزخارف وبُنى نيو - كلاسيكية مزيّفة. بغداد طِرسُ المُحال.

الباب، الشرفة، النافذة، الطاق، الجدار.. كانت دائماً في متناول اليد، أعانت فنّاني الطِرس الروّاد - وأشهرهم جواد سليم-  للوصول إلى قمة التجريب والتأسيس المنهجي/ الأكاديمي والتعمير الجمالي المدنيّ من خلال النُصب والجداريات الكبيرة. وكعادة فنّاني الصالونات (الأروقة والابهاء السلطانية) أخلصَ فنّانو بغداد في استيراث أساليب تقليدية لتطريز المساحات الكبيرة للعمارات الحديثة (المتاحف والمسارح وقاعات الانتظار في المطارات) بنسيج اجتماعيّ/ يدويّ مألوف للعين والذاكرة والأصابع (منسوجات ضياء العزاوي ويحيى الشيخ مثلاً) قبل ان تُجرى عليه عشراتُ العمليات التحويريّة والتصميمية، بأساليب احترافية منطوية على خصوصيتها التجريبية والمعمارية (تجارب مهدي مطشر البصَريّة). أما بعد ذلك، فإنّ ما أجراه الفنّانون الطِرسيّون من تجارب على مطوياتهم الورقية (الميناميليّة) يُحيي أقدمَ التوثيقات الصورية للمخطوطات القديمة (رسوم الواسطي لمقامات الحريري مثلاً) تلك التي سيطوّرها فنّانو منتصف القرن الماضي ويُرسونها على سطح البُعد الواحد (لوحات شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي وسالم الدباغ ورافع الناصري) ثم يُخرجها الفنّانون المهاجرون في حقائبهم إلى أفق بعيد من العاصمة القديمة. إلا أنّ الطِرس الأكثر تراكماً وامتداداً كان هذا الذي استحدثه جيلٌ فنّي طبَعوا صورةَ بغداد في أكثر من وجه على مطوياتهم وتلصيقاتهم الورقية وتجهيزاتهم الابتكارية (هناء مال الله، غسان غائب، مظهر أحمد، صادق كويش، صالح النجار، علي النجار، إضافة إلى حسين الطائي وآخرين من فنّاني بغداد يقصر اطلاعي عن ذكر أعمالهم).

هؤلاء المحقِّبون تقادُمَ بغداد في دفاترهم، سيقطعون أيَّ صلة ظاهرية بالمعمار العمودي الموروث والمنظور السطحي المعكوس عن نظرة أحادية، ويخترعون ما نحسبه تفكيكاً فنياً قاطعاً لتأريخية الطِرس المتراكمة حتى سنوات قريبة (ربما إلى سنوات قريبة من سقوط بغداد في مطلع الألفية الثالثة). ولا تجدي عملية التمرحل هذه في وصل ما انقطع من تجارب تسلسلية، إذ يمتاز الفنّ العراقي بخاصيته التناثرية، فينبغي على هذه السِّمة احتساب الدفاتر/ المطويّات تطريساً مقطوع الأصول، زمنياً ومفهومياً ، سوى ما تقدّمه صورةُ بغداد الوثائقية، المشوبة بشحوبٍ تدريجيّ تحت أضواء العصر المتناقصة، من إعانة مرجعية أساسية.

لم تنفع التطمينات المعمارية المستحدَثة على المشهد الطبيعي والاجتماعي للعاصمة، أو سياسة الاحتواء والتجميل في مؤسسات الفن، من تثبيت الصورة التقليدية لبغداد الكبرى، التي احتفظت بطِرسِها حتى الأنفاس الأخيرة. كان هذا الطِرس المتعدد الطبقات، قد نشأ في كنف البلاطات الملكية، وفضاءات الشوارع الجماهيرية، إضافة إلى قاعات الفن ومدارسه. لكنّ الحقيقة التي تصدمنا بقوة، إنّ الفنّ التشكيلي أخذ بالاندفاع الجامح-  الذي لا ننكر خطيئته وتيهه ونرجسيته- إزاء تذبذب خطّ الزوال المدنيّ والتاريخي لعاصمة العراق، وعَكْرة الطِرس الممثِّل لصورتها، بخطوطه وعشوائيته البنيوية. وفي هذا الاندفاع التيّاه بخصوصياته، الأصلية والمنبتّة الجذر، ما يسمح بتفحّص دفاتر حسين الطائي الأخرى، والبحث عن رابطٍ جماليّ، يضمّها مع "مطويات" وثائقية كثيرة حولها، إلى طِرس بغداد الكبير..
(للمنشور بقية)

(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية، وهو صدر له أخيراً كتاب "صحيفة التساؤلات" عن دار العائدون (عمّان - الأردن).
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024