كوديلكا في بيروت التي صوّر خرائبها.. ومعه "الجدار"

جوزيف الحاج

الخميس 2018/08/23
يُعرض في بيروت، قريباً، عملان للمصور التشيكي جوزف كودلكا Joseph Koudelka: الأول هو "الجدار"، 2008- 2012 عن جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة، والثاني هو "بيروت" 1991 وتناول فيه وسط المدينة قبل هدمه. ويقام المعرض في "دار النمر للثقافة والفن"، بالتعاون مع وكالة "ماغنوم". يفتتح في 13 من أيلول، ويستمر حتى 22 كانون الأول 2018.


ولد جوزف كودلكا في مورافيا (تشيكوسلوفاكيا) العام 1938 "خلف الستار الحديدي"، كما يقول. في 1968 تمكنت صوره عن "ربيع براغ" ولحظة دخول الدبابات السوفياتية إلى قلب العاصمة والمقاومة التي واجهتها، من اختراق الحدود المغلقة لتنشر في الصفحات الأولى لصحافة العالم. في أوائل السبعينيات، غادر تشيكوسلوفاكيا مختاراً منفاه الذي لم يغادره إلى اليوم "لا نعود أبداً من المنفى، قال، أن تكون منفياً يعني أن تبدأ من الصفر، إنها نعمة أُعطيت لي".


تعلم التصوير على يد قصاب كان صديق والده. تخصص في هندسة الطيران. أقنعه مصور محترف وناقد معروف بعرض صوره التي عكست ثورات وانقسامات ومعاناة وطنه. في صوره الأولى بدت شخصياته مضطربة عاجزة عن التحكم بمصائرها. صوّر الحياة اليومية لغجر أوروبا الوسطى حتى 1970. في 1967 ترك الهندسة لينصرف إلى التصوير. في آب 1968 نالت صوره عن إحتلال براغ جائزة "روبرت كابا" من دون ذكر اسمه. تعرّف الغرب على أيقونات مثيرة من تاريخ تشيكوسلوفاكيا الحديث. في 1970 غادر وطنه إلى بريطانيا، مواصلاً عمله عن الغجر، في 1971 انضم إلى "ماغنوم". في 1984 عرضت صوره الكاملة عن ربيع براغ للمرة الأولى مزيلة بتوقيعه في لندن، ثم في براغ نفسها التي عاد إليها في 1990 بعد "ثورة المخمل". صور وسط بيروت في 1991. في 1996 أقلقه الوضع البيئي في أوروبا، فصوّر تغيرات المشهد الطبيعي في أوروبا الشرقية بسبب المناجم.

صوره كثيفة السواد، المشغولة بخطوط هندسية صارمة، صنفته مصوّراً إنسانياً. لقبه أندريه بروتون بـ"العين المتوحشة".

الجدار
بين2008 و2012، صوّر كودلكا جدار الفصل العنصري الذي يفصل مناطق الضفة الغربية عن الأراضي المحتلة.



اعتبره "تصدّعاً إنسانياً إنعكس في المشهد الطبيعي. أي هراء هذا؟ لماذا يفعلون ذلك في هذه الأرض الجميلة!". لا حياة قرب هذه القطع الإسمنتية المرتفعة، التي قطّعت أوصال الأرض، وشقّت البيوت. إنه درس في النظر قدّمه كودلكا. في لحظة معينة، زحف تحت الأسلاك الشائكة ليلتقط الجدار "لفضح كل جدران العالم. وجدت نفسي أمام جدار آخر جديد، أنا الذي قضيت شبابي خلف جدار، كنت أتوق إلى إختراقه والعبور إلى الجهة المقابلة. لقد كان سجناً حقيقياً"، يقول.

قبل التقاط صوره، يجلس على الأرض يتكئ على الجدار، يراقب بصمت، ينهره الجنود عبر مكبرات الصوت: "تراجع!". تلفته كتابة على الجدار: "جدار واحد، سجنان". يرى أطفالاً فلسطينيين يلعبون، يبحث عن خطوط لصورته، يقدّر المسافة، يتأكد من قياس الضوء "أي هراء!" كلمة رددها قبل كل لقطة.

في المناطق الفلسطينية، رافقه مصور وسينمائي فلسطيني اسمه عيسى فريج، في الجهة المقابلة رافقه مصور وسينمائي صور شريطاً عن تنقلاته. "حدّثني زملائي في "ماغنوم" عن صعوبة التصوير في الأراضي المحتلة. لم أصادف ما يفوق هذا الجدار قوة وتأثيراً، لا في أنقاض وسط بيروت ولا عند تصوير تشوهات طبيعة أوروبا بفعل المناجم، هذا الجدار يبتر الأرض ويشوهها" قال.

لم تكن نظرته سياسية في البداية، أراد فقط إظهار ما تراه عيناه. يفضّل ألاّ يعرف شيئاً عن الأماكن التي يزورها للمرة الأولى. "المشاكل التي صادفتها كانت من قبل مستوطنين وجنود إسرائيليين. حتى في القدس الشرقية، عندما جلست في ظل الجدار لتناول الفطور، هرع نحوي بعض الجنود المسلحين، فتشوني وحققوا معي، لم أتزحزح من مكاني. كسر أحدهم كاميرتي، واصلت إستخدامها، لكنها أتلفت نحو 60 فيلماً. كانوا يعتقلونني 5 مرات يومياً. كانت الأمور تتعقد أحياناً. رفضت الحكومة الإسرائيلية تزويدي ببطاقة صحافة مؤقتة. أتذكر وجه هذا الجندي، فهو يشبه جندياً روسياً من الذين احتلوا براغ في 1968، لكنهم لم يكسروا كاميرتي". 

يتابع: "في "الجدار" أردت إظهار كل حالاته، هناك ما يسمى "البوابات الزراعية"، التي يجب على المزارعين الفلسطينيين سلوكها للوصول إلى أراضيهم إذا سمحت لهم السلطات الإسرائيلية. صوّرت أيضاً العديد من المكونات المختلفة التي تشكل الجدار: الأسلاك الشائكة، نقاط التفتيش، المعابر، أبراج المراقبة...إلخ".

بيروت: وسط المدينة
جاء كودلكا إلى بيروت، بين تشرين الثاني وكانون الأول 1991، مع خمسة مصورين آخرين، هم: فؤاد الخوري (لبنان)، رينيه بوري(سويسرا)، غبرييل بازيليكو (إيطاليا)، ريمون دوباردون (فرنسا)، روبرت فرانك (الولايات المتحدة)، لتصوير وسط المدينة المهدّم، تلبية لمهمة، أطلق عليها اسم "بيروت: وسط المدينة"، عن فكرة لدومينيك إده، وإشراف فني لروبير دلبير، وتمويل من "مؤسسة الحريري"، هدفها حفظ ذاكرة الأمكنة بعد الحرب. نُشرت الصور في كتاب  "بيروت: الوسط التجاري"-1992 عن دار نشر Cypres.



صُور كودلكا البيروتية مطابقة لأسلوبه ولنظرته، طرحها كخيار بصري مفاجئ، مستسلماً لهاجس المثالية وسط الفوضى التي تخلفها الحروب. اختياره للصورة البانورامية قبل سنوات من مهمته البيروتية يندرج ضمن معالجة بصرية تقوم على تكوين لقطته إنطلاقاً من خطين مستقيمين يشكل أحدهما زاوية مستقيمة مع الآخر، حيث إحداثيات أفقية ورأسية ترتسم على رقعة شطرنج هذا الدمار.

أزال من صوره البيروتية كل أثر لأمكنة متملقة، مملة، يمكن أن يبرزها إستخدام هذا القياس من الصور (بانوراميك). لم تكن نظرته ضيقة أو بليدة، إنما بعيدة عن أية رؤية جمالية، رغم أن أفقية وعمودية البانوراميك يمكن أن تحتجز عين المشاهد داخل إطارها المستطيل حتى المبالغة، على العكس، ترك كودلكا للعين حريتها.

أظهر كودلكا في صوره المقرّبة، أبعاداً خطوطية لتفاصيل معمارية مدنية. وأشار روبرت فرانك إلى تشظي المدينة، أفسح غبرييل بازيليكو فضاءات واسعة تتنقل فيها العيون بسلاسة،  رغم عدم تجنبه للعوائق الإسمنتية التي لم يدعها تسد مجال نظره، رافضاً الإنزلاق في رومانسية الدمار. وعاد ريمون دوباردون إلى مسرح الحدث، باحثاً عن الأحداث التي صوّرها في نفس المكان، أثناء الحرب، لذلك بدت في صوره عزلة المراسل الذي لم تسمح له الأحداث بالتوقف أمام العمارة المهدمة. حرص فؤاد الخوري، على إظهار آثار الحروب، بحث عن تفاصيل الزمن المنصرم، إنها الفوتوغرافيا التي تستعيد الزمن المتجمد. ابتعد رينيه بوري عن تداعيات ذاكرة الدمار فصوّر جمالاً بارداً.

أعمال كودلكا ورفاقه في وسط بيروت، محطة في تاريخ التصوير، إذ مهدّت لنوع فوتوغرافي جديد هو "جمالية الدمار"، لم تكن الصورة منذ ولادتها، وتحديداً منذ أول تغطية حربية لها (حرب القرم) قد توقفت عنده نظراً لإمكانياتها التقنية المحدودة آنذاك.

في كتابه "جمالية الخراب في صور الحرب: بيروت وسط المدينة"- 2014 لمارسيل فورتيني، رأى أن فتنة الخراب موضوع لم تتناوله الفوتوغرافيا ولا حتى الرسم الكلاسيكي، لما تسببه للذاكرة من صدمات عنيفة، تحرّك مشاعر الحسرة.

أنطلق فورتيني من صور هذه "المهمة": "الدمار ليس ديكوراً، هو بورتريه للحرب". تساءل عن خلاصة نتائج وأهداف هذه المهمة، إنطلاقاً من حالات جمالية وفلسفية ميزت نظرات هؤلاء المصورين في تمثيلهم للحرب، وعن التحولات الحاصلة في الإدراك الجمالي للدمار، وعن إمكانية الحديث، بعد هذه المهمة تحديداً، عن "جمالية الخراب" كلما صورنا حرباً؟

مهمة، شارك فيها كودلكا، تُعتبر اليوم نتاجاً مخبرياً لأبحاث حول "جمالية الخراب". نظرات، ربما افتتنت برومانسية هذه الحالة، لكنها بحياديتها ونظراتها المتنوعة أفسحت مجالاً لإمكانية تصنيف "الدمار" وجعله حقلاً مستحدثاً للصورة ودراسة مورفولوجية جمالية ممكنة.

باستثناء عمله "الجدار" لا يتحدث كودلكا عن صوره: "لا يهمني الحديث عنها. إذا كان لدي أي شيء لأقوله، فقد يكون موجودًا فيها. أحاول أن أكون مصوراً".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024