"جزيرة صغيرة": مسرح ببُنية رواية

شادي لويس

السبت 2019/08/10
الشاشة العملاقة، التي تتجاوز أبعادها أربعة أضعاف مساحة شاشة سينمائية متوسطة الحجم، اللقطات التسجيلية، والخلفية الفيلمية للحدث المسرحي، الخشبة التي يهبط عليها الديكور من أعلى دون احتياج لفواصل بين المشاهد، والأرضية التي تفتح فاها فجأة لتبلع الممثلين وقطع الأثاث، وتنشق مرة أخرى عن غيرهم، أو تلف لتكشف الجهة الأخرى من الحيز المسرحي وما يجرى فيه، الدائرة العملاقة التي تنفصل عن خشبة المسرح وتتحول إلى منصة دوارة للرقصات الجماعية، كل ذلك أضحى من تقاليد القاعة الكبيرة في المسرح الوطني بلندن، أو ربما أي قاعة كبرى في عاصمة غربية. خدع قديمة بتكنولوجيا جديدة، أو ربما لم تعد جديدة، تمت رقمنة برامج تشغيل الروافع الهيدروليكية للخشبة المميكنة منذ وقت طويل. يحاول المسرح أن يلحق بالسينما، فيستعين بشاشاتها، طبقات عديدة منها أحياناً، في الوقت نفسه، ويحاول تدجين الرواية ونجاحها في تلك المنافسة المحسومة مسبقاً لغير صالحه. 

توظف مسرحية "جزيرة صغيرة" المعروضة في المسرح الوطني بلندن، كل تلك التقنيات لتبدو كرواية مقروءة، ولتبقى وفية إلى أقصى حد لبُنية النص الأصلي، رواية الكاتبة البريطانية جامايكاية الأصل، أندريا ليفي، والتي تحمل الاسم نفسه. تنتقل مشاهد المسرحية بسيولة مدهشة، كنعومة الانتقال من فقرة إلى فقرة في صفحة مطبوعة أو من جملة إلى أخرى في الفقرة ذاتها، تتوالى المشاهد بين بريطانيا وجامايكا، على امتداد قصص أربع شخصيات رئيسة، خلال الحرب الثانية، وتتقاطع الأحداث بين محطات القطار، والميناء، والبيوت وظهور السفن والشوارع، مع تغير أصوات الرواة، الذين ينتقلون من محلات وسط لندن إلى الغابات التي تضربها أعاصير الكاريبي، في طرفة عين. كل تلك التنقلات الكثيفة والمتتابعة بسرعة أصبح ممكناً تحقيقها في المسرح، بسلاسة وبلا مشقة كبيرة، كنص مكتوب...
لكن لماذا تريد مسرحية أن تبدو كرواية؟


أندريا ليفي

تكمن الإجابة السهلة، والمقنعة أيضا، في سلطة النص الأصلي، في صوت أندريا ليفي الذي يبدو وكأننا نسمعه طوال الوقت عالياً وحاداً خلال المسرحية. بدأ عرض "جزيرة صغيرة" العام الماضي، ليتوج الذكرى السبعين لوصول السفينة "ويند رش" بأول المهاجرين الكاريبيين إلى بريطانيا. كانت تلك نقطة فارقة في تاريخ الإمبراطورية بعد الحرب الثانية بالطبع، لكنها أيضا لحظة التأسيس لهجرة أبناء المستعمرات إلى المتروبول، الهجرة الحديثة التي نفهمها ونعرفها اليوم.

ولم يكن هناك ما هو أكثر مناسبة للاحتفاء بتلك الذكرى أكثر من ليفي وروايتها تلك تحديداً. وبالطبع فإن "جزيرة صغيرة" (2004) لم تكن العمل الأول لكاتب من أصل كاريبي عن تجربة الهجرة وجيل "ويند رش". فرواية سام سيلفون، "اللندني الوحيد"، على سبيل المثال، المنشورة في العام 1956، سجلت تلك الخبرة في سنواتها الأولى. لكن على خلاف الأعمال السابقة، التي كان أبطالها من الرجال العزّاب وبعض النساء أيضا، فإن ليفي التي ولدت في لندن، وتنتمي للجيل الثاني من أبناء المهاجرين، كانت أول من كتب عن أُسر وأطفال الرعيل الأول لـ"ويند رش". 

لم تكن ليفي، التي رحلت مطلع العام الماضي عن 62 عاماً، مهتمة بالأدب في البداية، بل ولم تقرأ كتاباً حتى بلغت السادسة والعشرين، أما أصولها الجامايكاية فلطالما شعرت بالعار تجاهها. لكن زيارتها لبلد والديها، للمرو الأولى في شبابها، وقراءتها للكاتبة الأميركية السوداء، توني موريسون، غيرتا كل هذا. وفي المسرحية كما في الرواية، نرى صراعات ليفي الكثيرة، فعلى مستوى شخصي، تعتمد الأحداث على التاريخ العائلي والسيرة الذاتية لها، عن العلاقة بين المرأة البيضاء والمرأة السوداء داخلها، وعلى المستوى الفني نجدها تقاوم الظل الثقيل للأدب الأميركي الأسود، وتحاول الخروج منه، لرسم صورة مغايرة للخبرة الكاريبية في بريطانيا، المختلفة كثيرا عن مقابلها على الجانب الآخر من المحيط.

في "جزيرة صغيرة" نرى العلاقة بين امرأتين، واحدة بيضاء من الطبقة العاملة، وأخرى سوداء وصلت تواً إلى بريطانيا بعد نهاية الحرب الثانية، لا تبحث ليفي هنا عن هوية مفقودة أو أصول نسيت، بل عن حاضر مجتمعات أصبحت كوزمبوليتانية بطريقة أو بأخرى، ومنذ وقت طويل.

كان صدفة أن يشهد انطلاق عرض المسرحية العام الماضي، تفجر فضيحة "ويند رش"، فمئات من الحالات كُشفت للإعلام، عن عمليات الاحتجاز والترحيل والتهديد والحرمان من الخدمات الأساسية والطرد من السكن والمطاردات الأمنية التي قامت بها السلطات البريطانية، بشكل غير قانوني، ضد مواطنين مسنين ينتمون للأجيال الأولى من الهجرة الكاريبية. كل هذا يجرى في الواقع، والآن، لا إعادة للماضي على خشبة المسرح.

تنتهي المسرحية بشكل مقبض، فالمرأة البيضاء التي تلد طفلاً أسود من علاقة عابرة خارج الزواج، لا تجد مخرجاً سوى إعطاء طفلها إلى صديقتها الكاريبية، لتربيته كأنه ابنها. فطفل نصف أسود لا يمكن أن يُقبل في أسرة بيضاء. تصل الرواية في نهايتها إلى النقطة التي بدأت منها، فالمرأة السوداء التي تتبني الطفل، هي نفسها نصف بيضاء ونصف سوداء، وتخلت عنها والدتها في جامايكا للسبب نفسه، لا شيء يتغير إذاً؟ تغير الكثير بالتأكيد، لكن المذهل والصادم في آن واحد، هو أن كثيراً مما كتبت عنه ليفي ومن سبقوها ما زال يتكرر إلى اليوم، وبتفاصيل أقسى أحياناً. وربما كان هذا هو السبب في تمسك صناع المسرحية ببنية الرواية، فكلما كان الشبة بالأصل وبالماضي أكثر دقة، باتت الصدمة أكبر. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024