"كيتش" بالمصري يعني بزرميط.. والأصالة في الصفيحة

ناصر كامل

السبت 2019/10/12
قبل بضعة أشهر أجاب بعض الأصدقاء بـ"لا" على سؤال: هل قرأت "كائن لا تُحتمل خفّته"؟ واعتُبر ذلك وَصمة. وفي معرض حديث شائك عن ثنائية الأصالة والمعاصرة، قال صديق: "الأصالة في الصفيحة"، ثم راح يقهقه وسط استغراب تام شمل الحضور جميعاً، وبينما كان يلملم بقايا قهقهته المنفردة، بدأ يحكي: "صديقي الفنان التشكيلي والناقد الشاب (...) كان يشرح لمذيعة برنامج ثقافي معنى لوحته التي كان يشارك بها في معرض جماعي، فقال: اللوحة تعبير عن إِشكاليّة الأصالة والمعاصرة، ثم استفاض في شرح المعاصرة في اللوحة، مشيراً إلى أن زهوره تعارض زهور الخشخاش، كما رسمها فان غوخ، وأنه شاهد لوحة الفنان الأوروبي مئات المرات فاستفزته كل تلك المعاصرة، وأفرط في شرح معاصرته النقيضة لمعاصرة فان غوخ، ثم استعجلته المذيعة: وأين الأصالة؟ فأجابها مستنكراً: الأصالة واضحة جداً، الأصالة في الصفيحة". وابتسم صديقي قبل أن يوضح: "كانت الزهور موضوعة في صفيحة صدئة رُسمت في حواشيها زخارف نباتية من تلك التي تميز الفنون "الإسلامية" التراثية، وأضحت عبارة "الأصالة في الصفيحة" مثلاً في دائرة من الأصدقاء كلما تطرق الحديث إلى تلك الثنائية، وفي إحدى المرات تقاطعت الحكاية والسؤال، وأنتج تقاطعهما إضافة "الكيتش" إلى المثل، فأمسى: كيتش الأصالة في الصفيحة، وبعدما شاعت رواية كونديرا شيوعاً مذهلاً، تساءل صاحب "الأصالة في الصفيحة": ماذا يعني هذا الكيتش؟، فقيل له: ألم تقرأ بعد رواية التشيكي ميلان كونديرا "كائن لا تُحتمل خفّته"، فأجاب: لا، فردّ صديقي بعد أن طالت قهقهاته: كيتش يعني "بزرميط"، مثل "الأصالة في الصفيحة"، ثم وقف معلناً نهاية الجلسة، وردد بزرميط ثلاث مرات، وقال: شعار المرحلة: كيتش يعني بزرميط".

كان لدى صديقي دفتر يسميه "سجل الاستعارات" يسجل فيه مواقيت استعارات الكتب التي يقتنيها، يسجل اسم المستعير، وتاريخ الاستعارة، وتاريخ إعادة الكتاب، وملاحظات عن حال الكتاب بعد ردّه له. في ذلك الدفتر أحصى أربعين استعارة للرواية، ولاعتقاده بـ"سحرية" العدد أوقف إعارة الرواية، في الوقت الذي بدأ يُعير الفيلم المأخوذ عن الرواية؛ والذي يحمل العنوان نفسه.

في ذلك الدفتر، هناك تعليقات عن ردود أفعال المستعيرين: فلان الفلاني يُرجع شهرة كونديرا لرعاية الغرب له بصفته منشقاً عن النظام الشيوعي، وإلا فهو كاتب خفيف، علان العلاني يرى أن الجرعة الإثارية (الإيروتيكية) هي السبب، الناقد البنيوي أفاض في شرح دلالة "الكيتش" وتوقع أن يشيع تداول الكلمة وأننا بصدد البحث عن الكيتش المصري، وسجل صديقي تعقيبه: البزرميط قادم، ووضع علامات استفهام بعد عبارات نسخها من الرواية، وكانت من بينها تلك الكلمات التى كان يرددها المستعيرون: "الكيتش يُسَبب إلى إنهيار دمعتين بسرعة وعلى التتالي. الدمعة الأولى تقول: كَم هوَ جميل أن ترى الأولاد يركضون على العشب! الدمعة الثانية تقول: كم هو لطيف أن تتأثّر، مع كل الجنس البشري، من ركض الأطفال على العشب! إنّها الدمعة الثانية، ما يجعل الكيتش كيتشاً".


(كونديرا أبرز من تطرق الى الكتيش)

تخلي صديقي عن سخريته تلك بعدما علم بوفاة أروى صالح منتحرة، وكان يرفض إعارة كتابها "المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية"، بحجة أنه مازال يقرأ فيه، أو أنه يعاود القراءة كي يكتب عنه، وعنها، وعن الحركة نفسها. كانت أروي قد منحت "كيتش" كونديرا زخماً خاصاً، فقرأت كلماته من منظورها الثقافي والسياسي والشخصي، وكتبت في مقدمة كتابها: "صارت كلمة الكيتش إشارة معتمدة للأدب والفن الهابط وبهذا المعنى دخلت القاموس ما بعد الحداثي، المتسامح كما هو معروف إزاء هذا النوع من الفن،...، يمكن القول أن هناك نظريات عديدة تقابلها أنواع عديدة من الكيتش، فهناك الكيتش الكاثوليكي والبروتستانتي والشيوعي والفاشي والديموقراطي والنسوي الأوروبي والأميركي والقومي والأممي (ويمكننا أن نضيف بالطبع "الإسلامي")،...، في مملكة الكيتش التوتاليتارية/ الشمولية تُعطى الإجابات مُسبقاً محرِّمة بذلك أي سؤال جديد. لذلك، فبقدر ما أن الكيتش هو المثال الأعلى لكل السياسيين ولكل الحركات السياسية، يكون الإنسان الذي يتساءل هو العدو الحقيقي للكيتش، ولذلك الكيتش قناع يُخفى وراءه الموت".

مرت ثلاثة عقود تقريباً منذ أن اقترن "الكيتش" بالبزرميط، وتراجعت كثيراً شعبية كونديرا وروايته، وشاع تداول "الكيتش" من دون أن تشهد العربية ترجمات يعتد بها لشرح سياقات ودلالات الكلمة، مجرد استشهادات مجتزأة من بضع مقالات، بضعة سطور معربة من كتاب ما، وبينما يتسع التداول، تقل -مقارنةً به- المعرفة بمدلولات الكلمة، وبعض تلك المعرفة يعمق التداول الحر للكلمة. فإذا تقرأ مرة بعد أخرى، أن ثمة اتفاقاً على أن الكلمة ظهرت للمرة الأولى في أسواق الأعمال الفنية في ميونيخ خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر، كوصف للوحات والاسكتشات الرخيصة، الشعبية الرائجة، لكن هناك العديد من النظريات حول الأصل الذي اشتُقت منه، وبحسب كل نظرية تعني الكلمة شيئاً مختلفاً بدرجة ما. فهي تعني: يلطخ، أو: يُرخص (يجعل الشيء رخيصًا)، وتبدو "بزرميط" مناسبة كتمصير لذلك اللفظ الذي يجرى تداوله من دون معرفة قريبة بالكتابات الكثيرة التى كتبها معماريون وفنانون وفلاسفة وشعراء ونقاد، ألمان وإيطاليون وأميركان وإنكليز منذ العقد الثاني من القرن العشرين وحتى الآن، عن "الكيتش". وهي كتابات متباينة وبعضها يناقض، ويعارضه البعض الآخر.

قبل أشهر قليلة، نشر سامح سمير في موقع Boring Books (كتب مملة) ترجمته لمقال روجر سكروتون (فيلسوف وكاتب إنكليزي متخصص في علم الجمال والفلسفة السياسية)، حمل عنوان "سطوة الكيتش التي تتحدى الزمن"، وجاء فيه: "في السنوات الأولى من القرن العشرين، دخل الفن حقبة ثورية جديدة. "كفى هروبًا من الواقع"، كان الشعار الذي رفعه الحداثيون. ينبغي على الفن أن يعرض الحياة المعاصرة كما هي، وبهذه الطريقة فقط يمكنه أن يقدم للمتلقي عزاءً حقيقيًا. في غمار الهجوم على الأساليب القديمة، ثمة كلمة بعينها جرى تداولها بكثرة، كلمة "كيتش" kitsch. فما إن بدأت تجري على الألسنة حتى التصقت بها ولم تبارحها. "أيًا يكن ما تفعله، حذارِ أن يكون كيتش"... تلك هي القاعدة الأولى التي أصبح كل فنان حداثي يلتزم بها أيًا يكن الوسيط الفني الذي يستخدمه. وفي مقال شهير نُشر العام 1939، قال الناقد الأميركي كليمينت غريبنرغ لقرائه إن الفنان المعاصر أمامه طريقان اثنان لا ثالث لهما؛ إما الانتماء للطليعة، وتحدى الأساليب القديمة للرسم التصويري، وإما الكيتش".

الكيتش، كان في بدايته، إذاً، تعبيراً متعلقاً بصراع الجديد مع القديم في مجالات الفنون؛ خصوصاً العمارة والتصوير والموسيقى، والآداب، وخصوصاً في الشعر، وكان متعلقاً بتنامي طاقات الحداثة الفنية، المضادة لأشكال التعبير القديمة، ثم في مرحلة متقدمة، ومع بداية الحديث عن ما بعد الحداثة جرى النظر إلى الكيتش بنظرة قبول وتفهم؛ كما أشارت أروى صالح.


(كيتش نفرتيتي)

تداوُل التعبير في مصر، جرى وسط ذلك الفقر النظرى الكبير، مجرد إلماحات عابرة، وسط شيوع التعبير ولصقه بظواهر فنية واجتماعية وسياسية متنوعة، ومتعارضة. مديح وهجاء من دون أي ضوابط أو محددات أو حتى مؤشرات على العلاقة بين التعبير وتطورات مدلولاته وبين الظواهر التى توصف بأنها "كيتش".

فقد يصف البعض الواقعة التى جرت في جامعة المنصورة وعرفت إعلاميا بـ"حضن المنصورة" بأنها تعبير عن الكيتش المصري في مجالات الجامعة والأزهر والإعلام، فقد ذهب فتى وفتاة إلى سلوك يبدو جامحاً نسبيا (جلب الفتى باقة ورود ثم جلس على إحدى ركبتيه في حرم الجامعة وطلب على الملأ من الفتاة أن تقبل خطبته فاندفعت الفتاة إليه فرحة، واحتضن كل منهما الآخر). وتباينت ردود الأفعال، فعلى صعيد الإعلام جرت إدانتهما مع طلب الرأفة في عقابهما، وتشددت الجامعة في البداية في توقيع عقوبة قاسية، ثم تم تخفيفها بعد نصيحة شيخ الأزهر بذلك. الواقعة يمكن مقاربتها وفق تصورات كونديرا عن الكيتش. ففي بعض أفضل صفحات "كائن لا تُحتمل خفّته" يفكك بصورة هزلية جافة ما يدعوه الإنسان العاطفي، وهو لا يعرّفه بأنه "الشخص الذي يشعر بالعواطف (لأننا جميعا قادرون على الإحساس بها)، بل هو من بوّأ العواطف مقام القيم". هذا هو عالم الكيتش، العالم الذي نقدس فيه العاطفة، ومن ثم نقدّس تقديسنا للعاطفة مأخوذين برهافة دموعنا. ففي واقعة "الحضن" سادت العاطفة واستبدت، وكان الفتى يُقرّع ويُلاّم على فعلته، ثم يُسحب إلى إدانة سلوكه بنفسه ووصم أفعاله ويُجر إلى استعطاف ومذلة كي ينقذ مستقبله، لا قيمة للعاطفة والحرية والتلقائية وحتى المستقبل علق على عطف الشيخ والدكتور والمذيع.

كما قد نجد مدخلاً لتجريب التعاطي مع "الكيتش" الغامض، في واقعة التمثال النصفي الذي يحاكي تمثال نفرتيتي الشهير. فقبل نحو أربع سنوات، وُضع التمثال في مدخل مدينة سمالوط بمحافظة المنيا- وسط صعيد مصر- وحين عبّر عدد من المواطنين وبعض الفنانين عن الاستياء من قبح التمثال، ردّ أحد المسؤولين: "قررنا إزالة التمثال ونقله للمخازن، تمثال نفرتيتي تم إتلافه على أيدي جماعة الإخوان المسلمين، عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة"، ناسياً بالطبع، أو كاذباً في الواقع، أن التمثال وضع في منتصف العام 2015، وبعدها جرى وضع تمثال آخر لا يقل في الواقع قبحاً عن سابقه، لكن تم هذه المرة حشد إعلامي كبير للترحيب بالتمثال الجديد بينما الفنان المثّال يشكو: "الإعلام اهتم بالتمثال المشوه أكثر من الجديد". وبين وضع ورفع التمثال الأول، ووضع الثاني، كان الضجيج يدور حول نفرتيتي والإساءة للملكة العظيمة، وأهمية استعادة تمثالها الشهير من ألمانيا. وفي جدل: هل تنجح مصر في إعادة الجميلة أم لا؟ تمت مرات الإشارة إلى أن هتلر هو من أعاق إعادة التمثال لأنه مسحور بعيني الملكة، وقد استعاد معلقون في شبكات التواصل الاجتماعي حكاية هتلر ونفرتيتي تلك، عقب تصريح رئيس مجلس النواب المصري الذي تناول فيه هتلر وأشاد بما أرساه من بُنية أساسية قوية ما زالت ألمانيا تعتمد عليها!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024