الطبيب الإله

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/04/07
في كل العهود التي شهدت انتشار وباء من الأوبئة الفتاكة، برز الأطباء الذين يتفانون في كفاح ما لا يُكافح. في الماضي البعيد، برزت في بلاد الإغريق طغمة من الأطباء عُرفت باسم الاسقليبيين، وذلك نسبة إلى اسقليبيوس، الطبيب الإله الذي دخل الميراث العربي في زمن "دار الحكمة"، يوم تبنّت سلطة الخلافة العبّاسية حركة ترجمة علوم اليونانيين الأقدمين إلى دار الإسلام. 

في منتصف القرن الثالث عشر، وضع ابن أبي أصيبعة، موسوعته "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، وكتب في المقدّمة: "وقد أودعت الكتاب أيضاً ذكر جماعة من الحكماء والفلاسفة ممن لهم وعناية بصناعة الطب، وجملاً من أحوالهم ونوادرهم وأسماء كتبهم، وجعلت ذكر كل واحد منهم في الوضع الأليق به على حسب طبقاتهم ومراتبهم". بلغ المؤلّف في كتابه حدّ الأربع مئة سيرة لأطباء من كبار علماء الأمم، أولّهم اسقليبيوس. وقال في تعريفه بهذا الطبيب: "قد اتفق كثير من قدماء الفلاسفة والمتطببين على أن اسقليبيوس، كما أشرنا إليه أولاً، هو أوّل من ذُكر من الأطباء وأوّل من تكلّم في شيء من الطب على طريق التجربة، وكان يونانياً".

تعود أول شهادة وصلتنا عن اسقليبيوس، إلى هوميروس الذي ذكره في النشيد الرابع من الإلياذة بوصفه والد "ماخون الطبيب الذي لا غُبار عليه"، وهو الطبيب الذي استُدعي لمعالجة المحارب مينيلاوس، فعالجه، ووضع فوق جرحه "الأدوية الشافية التي كان خيرون قد أعطاها لأبيه باسم الصداقة". والمعروف ان "خيرون قنطور"، هو مخلوق له جسد حصان ويد وصدر ورأس إنسان، وقد تميّز عن سائر أبناء جنسه بالخلود، واشتهر بحكمته ومعارفه المتعدّدة.

بحسب الروايات المتناقلة، أحب إله الشمس أبوللو، أميرة من البشر تُدعى كورونوس، يوم رآها تغسل قدميها في مياه البحيرة، غير انها كانت مغرمة بالأمير الأركادي أيسخوس، وتكرّرت اللقاءات بينهما ضد رغبتها، فأضحت مغلوبة على أمرها، إذ أصبح جسدها ملكاً للإله، وقلبها ملكاً للأمير الشاب. واكتشف أبوللو انها ما زالت على علاقة مع حبيبها، فحكم عليها بالموت، وحين وضع جثمانها فوق المحرقة، تذكّر أنها كانت حاملاً منه، فطلب من شقيقه الإله هرميس أن ينقذ الجنين، فانتزعه من رحم كورونيس. خرج الجنين إلى الحياة حيّاً، وأطلق عليه والده اسم اسقليبيوس، وعهد بتربيته إلى القنطور خيرون.

تلقى الطفل علومه على يد خيرون الذي درّبه على فنون الطب أحسن تدريب، حتى أمسى ماهراً في العلاج بالأعشاب، ثم أصبح طبيباً بارعاً قادراً على معالجة كل الأمراض، بل أصبح أكثر من ذلك، إذ أعاد إلى الحياة العديد من الشخصيات المعروفة. أثار ذلك حفيظة هاديس إله العالم السفلى، فذهب إلى زيوس كبير الآلهة، وشكا إليه، فغضب زيوس، وضرب اسقليبيوس بضاعة رعدية قضت عليه في الحال، فانتقم والده أبوللو بأن قتل الكوكلوبيس الذين يصنعون الصواعق، فكان عقابه على ذلك أن يخدم كإنسان في الأراضي مدة من الزمان. في الختام، أدرك زيوس ان اسقليبيوس عمل الكثير من الخير للبشر، فرفعه إلى الأعلى، وجعل منه كوكبة الحوّاء التي تمرّ فيها دائرة البروج، وشاعت عبادة الطبيب الإله في مدينة إبيداروس حيث شيّد له معبداً قديماً، وامتدّت إلى سائر العالم المتوسّطي في مرحلة لاحقة.

أنجب اسقليبيوس عدة أبناء ورّثهم المهارة في الطب، وعُرفت سلالته من الأطباء بالاسقليبيين، ومنهم أبقراط الذي أخرج الطب من آثار ظلمات الطقوس السحرية، وكان أول مدون لكتب الطب، وأعظم أطباء عصره. هكذا اتّخذت صفة الأسقيليبية معنى آخر، وعُرفت صفة الطبيب "العلماني" الذي خرج عن دائرة الأطباء الكهنة التي جمعت بين الطب والدين والسحر في العالم اليوناني القديم، وجعلت من اسقليبيوس إله الذهن الذي مهّد لما سيُعرف لاحقاً باسم العلم الصافي المجرّد من كل ما لا يقبله العقل. سمع العلماء بهذا الطبيب من خلال ما نقلوه من نتاج ورثته، ونقلوا العديد من الأقوال التي نُسبت له.

في "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، كتب البيروني: "ذوو الفضل من الناس إنّما استأهلوا ما نالوه من الكرامة حتى لحقوا بالمتألّهين بسبب جودة معالجتهم للصناعات، لا بالإحصار والمصارعة ورمي الكرة، من ذلك أنّ أسقليبيوس وديونوسيوس إن كانا في ما مضى إنسانين ثمّ إنّهما تألّها، أو كانا منذ أوّل أمرهما متألّهين، فانّهما إنّما استحقّا أعظم الكرامة بسبب أنّ أحدهما علّم الناس الطبّ، والآخر علّمهم صناعة الكروم". في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، جمع ابن أبي أصيبعة كل ما وصله من أخبار أسقليبيوس، ونقل في مستهل حديثه قول أبو سليمان السجستاني المنطقي في تعاليقه: "أن اسقليبيوس بن زيوس، قالوا مولده روحاني، وهو إمام الطب". كما نقل عن المصادر السريانية خبراً يقول إن اسقليبيوس كان "ذكياً الطبع، قوي الفهم، حريصاً مجتهداً في علم صناعة الطب، واتّفقت له اتفاقات حميدة معينة على التمهّر في هذه الصناعة، وانكشفت له أمور عجيبة من أحوال العلاج بإلهام من الله عز وجل، وُحكي أنه وجد علم الطب في هيكل كان لهم برومية، يعرف بهيكل ابلن (أي أبوللو)، وهو للشمس".

أشار ابن أبي أصيبعة إلى نهاية سيرة أسقليبيوس حيث نقل عن ابقراط قوله "إن الله تعالى رفعه إليه في الهواء في عمود من نور"، ثم أضاف: "وقال غيره إن اسقليبيوس كان معظّماً عند اليونانيين، وكانوا يستشّفون بقبره، ويُقال أنه كان يُسرّج على قبره كل ليلة ألف قنديل. وذكر أفلاطون في كتابه المعروف بالنواميس عن اسقليبيوس أشياء عديدة من أخباره بمغيبات، وحكايات عجيبة ظهرت عنه بتأييد ألهي، وقال في المقالة الثالثة من كتاب السياسة أن أسقليبيوس كان هو وأولاده عالمين بالسياسة، وكان أولاده جنداً، وكانوا عالمين في الطب.

بعد هذه المقدّمة، استعاد ابن أبي أصيبعة ما جمعه من قبله الأمير أبو الوفاء المبشر بن فاتك من أحبار اسقليبيوس، في كتابه "مختار الحكم ومحاسن الكلم"، كما استعاد ما جمعه أبو معشر البلخي المنجم في كتابه "الألوف"، وأضاف معلّقاً: "بلغ من أمر أسقليبيوس أن أبرأ المرضى الذين يئس الناس من برئهم، ولما شاهده الناس من أفعاله ظنّ العامة أنه يُحيي الموتى، وأنشد فيه شعراء اليونانيين الأشعار العجيبة، وضمّنوها أنه يُحيي الموتى، ويرّد كل من مات إلى الدنيا، وزعموا أن الله تعالى رفعه إليه تكرمة له وإجلالاً، وصيّره في عديد الملائكة".

بعد هذا التعليق، عاد ابن أبي أصيبعة من جديد إلى المصادر اليونانية، ونسب إلى يحيى النحوي رواية تقول "ان أسقليبيوس عاش تسعين سنة، منها صبي وقبل أن تفتتح له القوة الإلهية خمسين سنة، وعالم معلم أربعين سنة، وخلف ابنين ماهرين في صناعة الطب، وعهد إليهما أن لا يعلما الطب إلا لأولادهما وأهل بيته، وأن لا يدخلا في صناعة الطب غريباً، وعهد إلى من يأتي بعده كذلك وأمرهم بأمرين أحدهما أن يسكنوا وسط المعمور من أرض اليونانيين، وذلك في ثلاث جزائر منها قو جزيرة ابقراط، والثاني أن لا تخرج صناعة الطب إلى الغرباء، بل يعلمها الآباء الأبناء". 

من جهة أخرى، قدّم ابن أبي أصيبعة وصفاً دقيقاً للتماثيل التي تجسّد اسقليبيوس، ونسب هذا الوصف إلى جالينوس. جاء في هذا الحديث ان صورة اسقليبيوس هي "صورة رجل ملتح"، "ترى الأعضاء منه التي يُستحى من تكشفها مستورة، والأعضاء التي يحتاج إلى استعمال الصناعة بها معرّاة مكشوفة". يقف هذا الشيخ الملتحي "آخذاً بيده عصا، معوجة ذات شعب"، "عليها صورة حيوان طويل العمر، ملتفّ عليها وهو التنين". 

حفظ التاريخ عدداً كبيراً من صور المنحوتة والمنقوشة، ويظهر الطبيب الإله في عدد كبير من هذه الصور ملتحفاً برداء طويل، مستنداً على عصا تلتفّ حولها أفعى. تقول الرواية التي خلدها الشاعر أوفيد في الكتاب الخامس عشر من "التحولات"، أن اسقليبيوس سافر من إثينا إلى روما، حاملاً معه الأفعوان الذي يلتف بعقده على عصاه، وذلك ليكون شفاءً للمدينة من الطاعون الرهيب الذي أفرغ الأجسام من دمائها، وترك البشر محبطين أمام عجز السماء وفنون الأطباء عن إيقاف الموت المتفشّي في مدينتهم. وبات هذا الفعوان منذ تلك الحقبة رمزاً لعِلم الصيدلة والطب. 

يظهر اسقليبيوس وهو يعالج امرأة مريضة على لوح يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتظهر من خلفه ابنته هيجيا، كما يظهر في الطرف المقابل ثلاثة من أقرباء المريضة. ونقع على لوح من الحقبة نفسها، يظهر فيه الشيخ جالساً على كرسي تقف من خلف ظهره هيجيا، وتظهر الأفعى تحت هذا الكرسي، بينما تظهر في الطرف المقابل عائلة من ثمانية أفراد، وهي العائلة التي أوصت بإنجاز هذا اللوح كعلامة لتعبّدها للإله. 

بحسب الروايات المتداولة، اقترن اسقليبيوس بحورية تُدعى أيبون، أي تسكين الألم، وأنجب منها تسعة أنباء، ثلاثة ذكور وست إناث، دأبوا جميعاً على مساعدته في مهامه الطبية. في هذا الحقل، عُرفت هيجيا كطبيبة تحرص على الدرء من أخطار التلوث، وكانت أول من دعا إلى غسل المرضى بالماء والصابون، وقد عملت إلى جانب والدها، ومدت له يد العون في مهامه الكثيرة، فصارت شريكة له في المجد والعظمة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024