قلب الجمهور لا يقوى على تحمّل عنف "فون ترايير"

يارا نحلة

الأربعاء 2018/06/13
حذّرنا المخرج الدنماركي لارس فون ترايير، أثناء تصوير فيلمه الأخير The House That Jack Built، أنه سيكون أكثر أفلامه عنفاً. إن تحذيراً من هذا النوع لا بدّ من اتخاذه على محمل الجدّ، فصاحب فيلم Antichrist معروف بقدرته على الاستفاضة بمشاهد ملطخة بالدماء والعنف.

فمن شاهد Antichrist ما كان ليتخيل أن المخرج سيتجرأ، من بعده، على رفع مستوى العنف الذي أرساه بمشاهدٍ دموية تصل إلى حدّ التعذيب الذاتي وبتر الأعضاء التناسلية. لكن في مهرجان "كانّ"، حيث عرض الفيلم مؤخراً، نجح فون ترايير مرة جديدة بالتفوق على نفسه وتجاوز توقعات الجمهور. أما النتيجة، فكانت خروج مائة مشاهد من صالة العرض قبل انتهاء الفيلم، وذلك لعجزهم عن إحتمال مشاهد الفيلم القاسية.

أوصاف عديدة استخدمها المشاهدون لوصف الفيلم منها "مقرف"، "منحطّ" و"مثير للغثيان". حتى إن أحد النقّاد غرّد بأنه كان "من الأفضل لو أن هذا الفيلم لم يصنع". كتبت صحيفة The Telegraph بأن الفيلم هو عبارة عن "ساعتين ونصف الساعة من البورنو الحافل بالتعذيب"، وعلّقتThe Guardian بأنه "مصيبة شنيعة وباعثة للإنهاك والغضب". حتى أن أحد الصحافيين سأله، بعد إنتهاء الفيلم، إن كان يتناول أدويته.

إن مشاهد العنف والتعذيب مبرّرة في سياق فيلم الرعب السايكولوجي الذي يتتبع قصة قاتل متسلسل هو جاك (يلعب دوره الممثل مات ديلون)، الذي يبتكر طرقاً مروعة لقتل ضحاياه وتشويههم على مدى 12 عاماً. لكن فون ترايير لم يكن بحاجة لموضوعٍ كهذا كي يعبّر من خلاله عن ميوله السوداوية التي تلامس ميدان السادو-مازوشية. فهو عرف في أفلامه السابقة بأسلوبه الدرامي القاسي والباعث على الميلانكوليا والاضطراب، الذي يتجلّى في "ثلاثية الإكتئاب".

كما يُزعم أن عروض فيلم Antichrist شهدت هي الأخرى انسحاب الجمهور من صالات العرض، بالإضافة إلى حالات إغماء وقيء. أما عن فيلمه الجديد، فقد قال المخرج بأنه "يحتفي بفكرةٍ مفادها أن الحياة شريرة ولا روح لها". وكأنه كان يستبق ردّات الفعل الحانقة، أورد فون ترايير في الملاحظات المعدّة للصحافيين، بشيءٍ يشبه التبرير: "لقد أمضيت سنواتٍ طويلة في صنع أفلام عن نساء طيبات. اليوم، صنعت فيلماً عن رجلٍ سيئ".

أما أثناء كتابته للفيلم، فقد أشار المخرج إلى أنه يمرّ في أوقاتٍ عصيبة بسبب صراعه مع الإكتئاب، ما جعله يمضي أشهراً في سريره من أجل كتابة السيناريو، هذا بالإضافة إلى معاناته من الإدمان على الكحول. فوصف فترة التصوير بأنها "كانت حافلة بالقلق والإفراط بالشرب".

لكن بصرف النظر عن أسلوب فون ترايير السينمائي وفلسفته السوداوية، فهو لطالما كان محباً للجدل وجاذباً له. فخلال مشاركته الأخيرة في مهرجان "كانّ" في العام 2011، أطلق دعابة حول تعاطفه مع هتلر، ما أدّى إلى إدراجه ضمن خانة "الأشخاص غير المرحّب بهم"، واستبعاده عن المهرجان لمدّة سبع سنوات.

وحين عاد فون تراير إلى "كانّ"، رُحب به بمغادرة جماعية لصالة العرض. إلا أن المخرج المشاكس، الذي تقصّد على الأغلب إثارة ردّة الفعل هذه، لم يشعر بأي حرج أو إنزعاج، بل "بالراحة القصوى" بحسب ما صرّح في مقابلة مع Cineuropa. حتى أنه يخشى "ألا يكون الجمهور قد كرهه بالقدر الكافي".

إلا أن لإنسحاب الجمهور من الفيلم بعداً أخلاقياً يتعدّى الصدمة النفسية أو عدم القدرة على تحمّل مشاهد العنف الصارخة. فالجمهور المتمثّل بمجتمع كانّ "الراقي" أراد بحركته هذه التعبير عن موقفٍ أخلاقي وفكري رافض للعنف كممارسة سينمائية وفنية. إنها "أناقة" "كانّ" في مقابل "شناعة" فون ترايير وأساليبه غير المتوافقة مع النظم الأخلاقية لمجتمع البرج العاجي، من نكاته النازية إلى مزاعم ممارسته التحرّش الجنسي.

فالعنف ليس بالأمر الجديد على السينما. لكن، ما كان ينظر إليه كجمالية فنية، أصبح اليوم يقابل بحاجبين مقطبين. فون ترايير نفسه إعتاد المنافسة على الجوائز القيمة للمهرجان، أما اليوم فهو كاللاعب الذي يجلس على مقعد الإحتياط، ليعرض فيلمه على هامش المهرجان دون المشاركة في المنافسة.

ليست هذه الحادثة سوى مؤشر على إتجاه الشرطة الأخلاقية إلى مزيدٍ من الرقابة السينمائية. لو كان لهذه الموجة الأخلاقية أن تضرب الوسط السينمائي خلال عقودٍ سابقة، ما كنّا لنشهد على رائعة A Clockwork Orange لستانلي كيوبرك، وما كنّا لنرى إبداع كوينتن ترنتينو أو عبقرية مارتن سكورسيزي. بإختصار، كان قسم كبير من السينما سيختفي لو أن المجتمعات السينمائية السابقة قد تبنّت قواعد عصرنا الصارمة. "لقد نكّل بجثث الأطفال فيما كنّا نجلس بملابسنا الرسمية"، اشتكى أحد الصحافيين الذي يحيا في عالمٍ غير ذلك الذي تغزو نشراته الإخبارية جثث أطفال حقيقية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024