لحم التعاسة

محمد حجيري

الأربعاء 2020/06/17
لم استوعب ذلك اللحام الذي بدأ "يتوسل"، بشكل من الأشكال، لكي أبيعه 200 دولار كانت في حوزتي... لا أبيع الدولار ولا اشتريه، قلت له، في البداية... لكن عند الحاجة لا بد من استعماله... ذلك اللحام اشتهر بأنه "لا يبيع اللحم المثلج أو المغشوش"، قصدته بعدما أرشدني إليه جاري الحانوتي.. من قبل، كنت اشتري اللحمة، من جزار بقي لمدة يتباهى بأنه يبيعها بسعر منخفض على عكس أقرانه. وفي المدة الأخيرة، بدأ لي كأنه يبيع نفايات دهنية، أطلب منه لحم الغنم فيغشه بلحم البقر أو الماعز، أطلب منه لحم البقر فيدعمه بالدهون المخزنة في ماكينة الطحن أو المتوافر في صحون جاهزة لـ"تكريم الزبائن"، وإشباعهم بالكولسترول...

كنت قصدت الجزار الجديد لشراء القليل من اللحم في ذلك العصر، وقبل أن أطلب حاجتي، فاتحني يطلب شراء الدولار. نظرتُ إليه ونظر اليّ، حاولتُ التهرب منه، لكنه كان ينظر إلي نظرة تدلّ على العوز، ربما هي نظرة احتيال وتاجر، بدا كأنه يعيش مرارة يومية من شراء الدولار، وأنا في لحظة بدأت أتعاطف معه لسبب أو من دون سبب. قال لي: "لم أذبح اليوم، لم اشتر عِجلاً جديداً لأن الدولار غير متوافر في جيبي. صاحب المزرعة لا يقبض إلا بالعملة الصعبة"...

ربما ما ذكَّر الجزار أني أملك 200 دولار، أنه، الأسبوع الماضي، حين اضطررتُ إلى أن أصرف منه مئة دولار لكي اشتري، يومها أخذ المئة دولار وارتسمت على ثغره ابتسامة من ربح كنزاً، وهو قبل أن يأخذها مني كان يشتم الوضع الراهن قائلاً إنه اشترى الدولار بـ4700، وفي اليوم الثاني تراجع الى 4200 أو 4300، "خسرت مليونَي ليرة في ساعات قليلة"... وفي الوقت نفسه، كانت امرأة بلباس أسود، بدت عليها أحوال الفقر، تسأله عن أسعار اللحوم، فقال لها بطريقة ودودة: شو بدك باللحمة يا حجة، غالية... الكيلو بثلاثين ألف وإلك بـ28... حين قال ذلك، قالت له أعطني بـ10 آلاف ليرة، وسرعان ما قالت: إذا فيك تردّلي 500 ليرة أريد شراء البصل لأكمل الطبخة، فردّ لها ألف ليرة قائلاً: "هذه عن روح والدي يا حجة، تكرم عينك".

وقفت حائراً أمام مشهد المواطنة واللحمة، أسأل نفسي مَن أوصلنا إلى هذا الدرك، وبتنا في مرحلة قد تكون اللحمة وليمة الأثرياء فحسب، بل وليمة منقرضة وديناصورية في هذه المرحلة...

عدتُ الى البيت، وقد اشترى الجزار الـ200 دولار، و"سامحني" بثمن اللحمة التي اشتريتها، و"أخذني بحلمه"، في وقت كنت اتابع أخبار الدولار في صفحات فايسبوك، فبدت مثل هذيان... قيل إن الناس يقفون في طوابير للحصول على 200 دولار مع إبراز أوراق تثبت الحاجة الى هذا المبلغ، فيما أقفل معظم الصرافين في بيروت أبواب محالهم، وانتشر عند النواصي والزوايا تجار السوق السوداء... في المساء، كانت السخرية بأنه مع ضخ الدولة الدولار، وصل سعره الى خمسة آلاف ليرة، يشترونة من الصراف الشرعي بنحو 4000 آلاف ليرة ويبيعونه بـ5000 أو 4700 ليرة، وقبلها بساعات كان ساكن السرايا يقول "الدولة غير مفلسة"...
***
مع غلاء الدولار والأزمة الاقتصادية، بدت علاقة اللبنانيين باللحم شبيه بعلاقة المصريين بها. فالمصريون في سنوات عوزهم، كان بعضهم يتحدث عن اللحم كأنه الحلم على المائدة... الفنانة شيرين عبد الوهاب في إحدى مقابلاتها، تحدثت عن يُسر عائلاتها بأنها كانت تذبح الخراف، والآن حين يذكر بعضهم الخروف في لبنان، يقول سعره مليون ليرة، بمعنى أن من يذبح خروفاً لمائدته يُعتبر من بقايا فئة ميسورة في طريقها إلى الزوال... بات لبنان يعيش أجواء أغنية "الفول واللحمة" للشيخ امام التي كانت تسخر من تراجع الأحوال الاقتصادية في مصر في عهد السادات، وتسببت في الحكم على الثنائي (إمام/نجم) بالحبس لمدة سنة في 1977.
***
في عيد الفطر الأخير حين ذهبت إلى البقاع، هارباً من جحيم كورونا... كان أول ما راود مخيلتي، شراء بعض لحم الخروف الذي نادراً ما أجد مثيله في المناطق الساحلية وبيروت التي تزخر بأنواع اللحم التركي والبرازيلي والاسترالي والبلا وأبو دنب... وكلها كأنها حشو معدة فحسب، لا طعم ولا نكهة... طقس شواء اللحم في البقاع بالنسبة الي، أشبه بنوع من حنين أو "بداوة غابرة"، لم يبق منها إلا طعم ذلك الخروف الوديع وهو يسمى الخروف الشامي أو عويس، والذي يقتات عشب البراري الفسيحة وليس الأعلاف المركبة، ويمتاز بطعمه الشهي الذي يحفظه لساني برغم اني قلما تناولته في السنوات القليلة الماضية. في المشوار الأخير، خاب ظني، ففي أيام العيد بقيت محال الجزارين مقفلة، وقيل إنها أقفلت بسبب ارتفاع أسعار اللحم. وحين افتتحت، بدا أن الجزارين يلجأون الى ذبح الماعز أو الخروف الأنثي (فطامي)... قال لي أحدهم: "راحت أيام العويس، لم يعد أحد يستطيع شراءه، الكيلو بأكثر من خمسين الف ليرة، الطبخة تكلف صاحبها نحو مئة ألف ليرة، والخراف المتوافرة قليلة، مقارنة بالسنوات الماضية، تُصدّر أو تباع إلى بعض الدول الخليجية"...

خاب ظني في ذلك المشوار، وارتضيتُ شراء القليل من لحم الفطامي. أمام البيت، وأنا أشعل "كانون" (منقَل) الفحم، شعرت بالخجل المرير والسخيف من العابرين لأو الزائرين لمنزل عائلتي. قال لي أحدهم "إن شواء اللحم في زمن القلّة، أشبه بالكفر"، فصمتُّ. بقيت واقفاً بين دخان الفحم ورائحة الشواء، وقلت أين الشاعر محمد العبدالله يكتب عن لحم السعادة واللحمة النيئة واللحمة المفرومة على السيخين أو المدقوقة على البلاطة...
وقلتُ داعاً زمن اللحم، وداعاً كل شيء. ربما نتسوّل الملح في زمن "الممانعة".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024