"على حافة الديموقراطية".. هل السينما اليسارية ممكنة؟

محمد صبحي

الخميس 2020/01/23
هل السينما اليسارية ممكنة؟ سؤال ثابت، متكرر وخانق، باشتمال استفهامه على مسألة اليسار كمشروع وأفق سياسي، وإمكانية تأسيس معايير تمثيلية؛ يقف بالتبعية مضاداً لإمكانية (أو لا يفكّر أساساً فيها) تأسيس فكرة عن الواقع والبدء منها لتغييره.


منذ أكثر من نصف قرن، تستمر فكرة الخيال الروائي اليساري في السينما، مدعومة أحياناً بتحديثات وإعادة اختراعات تبقيها صالحة للتداول ومحفزة على اشتباك فعّال وحيوي مع متغيّرات ناس وأحوال وسياسات، وليس كدعاية مضادة على طريقة مايكل مور. في سيناريوهات أخرى، بتأثير من فكرة السينما القومية وطغيان نفوذ السلطة لصبغ كامل محيطها - الجغرافي كما الإبداعي- بخطابها الوحيد، فإن سرداً يسائل ويفكّك تصوير وتمثيل وبنية تلك الهيمنة المرئية، موضوعياً وأسلوبياً وجوهرياً، لا يجد أمامه لرواية حكايته المغلوبة سوى الفيلم الوثائقي كـ"فورمات" واقعي وموجز يسلك أقصر الطرق لإخبار جانب آخر من الرواية، الجانب المغيَّب بفعل السلطة.

تحت سطوة الصورة المتسلّطة الإرشادية، تلك التي تدعّي واقعاً يسبق كل وجود ويتكيّف دوماً مع مصالحها؛ على السينما الالتزام بإعلان انحيازها للمجتمع وفكرة السينما كأداة مقاومة للكذب، عبر تقديمها وصفاً حقيقياً مدققاً، يقدَّم بطريقة شفّافة. هذه الأيديولوجيا الخفية لصناعة الأفلام الوثائقية تربط قيمة وجودة السينما بمدى تأملها في واقعها وقدرتها على رصده وتفحّصه والخروج في نهاية عملها بقراءة سليمة.

سينما اليسار، أو الأكثر ليبراليبة، الخطرة، الراديكالية - فقط لإعطائها بعض الأسماء التعسفية - تتجاهل الصورة المفهرسة لصالح بناء حقيقتها من الصور وبها. لبلوغ مسعاها، عليها أولاً التخلّى عن تراث الفن الأيديولوجي في تصويره الواقع كشيء يسبق وجوده السينما، وتفهم أن الواقع يحيا في السينما ومعها. انعكاس ذلك الفهم على المنتج السينمائي، كما يمكن ملاحظته في تجديدات السينما المعاصرة وروافدها في المشهد السينمائي البرازيلي البديل، في زمننا المشدود والمحتقن، يستدعي إعادة اختراع المجتمع والسياسة. والسينما "البرازيلية"، كما كانت قبل 50 عاماً مع حركة "سينما نوفو"، تتشكّل من جديد كمساحة للتفكير في اليسار، وإذا أمكن، سينما يسارية.

بعد عزل ديلما روسيف، ومحاكمة لولا دا سيلفا وسجنه، وحتى انتصار بولسونارو برئاسة البرازيل، يوجد اليوم نوع فرعي في السينما البرازيلية يتأرجح بين تفسير وتفشّي الصدع الديموقراطي في محاولته ابتكار منهج سينمائي ضمن سعيه لابتكار سينما جديدة لبرازيل جديدة في خضم المقاومة. 


"على حافة الديموقراطية"(*)، فيلم بيترا كوستا (1983، البرازيل) المرشح للأوسكار، هو واحد من نتاجات معمل التغيير السينمائي الكبير الفائر في البرازيل. منغمس بالكامل في الأزمة السياسية المبتلى بها بلد اختار لنفسه اسم شجرة، فلم يبق سوى الاسم. بلد مات فيه عبيد أكثر ممن وُلدوا. بلد سُحق فيه كلّ تمرّد بعنف، وأعلن فيها القادة العسكريون قيام الجمهورية. بلد بعد 21 عاماً من الديكتاتورية، أسّس ديموقراطيته، وأصبح مصدر إلهام للعالم. حينها بدا أن البرازيل تخلّصت أخيراً من لعنتها. لكن "ها نحن ذا. دِينَ رئيس سابق، وسُجن آخر، وعادت البلاد بسرعة إلى ماضيها الاستبدادي. اليوم، إذ أحسّ بانشقاق الأرض من تحتي، أشعر أن ديموقراطيتنا لم تكن سوى حلم قصير الأمد"، بهذا التقديم تبدأ كوستا فيلمها.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تحكي المخرجة أكثر فترات بلدها المجيدة، عندما انتُخب العامل والزعيم النقابي السابق، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، رئيساً، وخلال ثمانية أعوام من حكمه تمكّن من انتشال 20 مليون برازيلي من الفقر. لكنه يظهر أيضاً مرحلة أخرى سوداء ويروي سلسلة من الأحداث التي صدمت البلاد في السنوات الأخيرة: الحملة الممنهجة ضد حزب العمال، قضية كار واش، الإجراءات القانونية ضد لولا، عزل ديلما، مما أدى إلى صعود اليميني المتطرف خاير بولسونارو، الرئيس الحالي للبلاد. ماذا حدث؟ كيف لم يحذر أحد من الخطر المعلن عنه بشكل فاضح؟

كوستا، ابنة لمسلحين يساريين عارضا الديكتاتورية البرازيلية في شبابهما وأُجبرا على الكفاح السري في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تعرف جيداً معنى حكم الأمر الواقع والجيش المنتشر في الشوارع. لهذا السبب تتجرأ على الاستكشاف والمراوحة باستمرار بين تجربتها الشخصية والأحداث العامة. "من أين نأتي بالقوة للمشي بين الأنقاض والبدء من جديد"، تسأل نفسها بينما تظهر الصور الميادين الواسعة في برازيليا كمشهد للنزاعات السياسية التي قسمت بلدها في السنوات الأخيرة.

في نهج يذكّر كثيراً بأسلوب الفرنسية الراحلة آنييس فاردا، يسعى الفيلم لتقديم تفسير وفضح نهاية حلم فكرة الديموقراطية ذاتها، عن طريق الجمع بين التاريخ العائلي للمخرجة وذاكرتها البصرية وبين الصراع السياسي الدائر بين النخبة البرازيلية المحافظة وحزب العمال اليساري. بين تحولات وانعطافات ومؤامرات تدور رحاها في الكونغرس البرازيلي، تقوم السينمائية بتسليط أشعتها السينية على الميكانيزمات والعمليات التي يجهض بها حفنة من رجال الأعمال المتنفّذين حلماً بعهد ديمقراطي، في منوال يشبه للغاية صراعاً طبقياً محدّثاً يفوز الأغنياء في نهايته دائماً.

عبر الاستعانة بمواد أرشيفية، وصور لأحداث ومستجدات الشأن البرازيلي، والتعليق الصوتي للمخرجة، ومقابلات طازجة ومباشرة مع الشخصيات، ومجموعة واسعة وغنية من التسجيلات والتسريبات الصوتية؛ ينزع الفيلم قناعاً تلو آخر في استقصاء يكشف الإجراءات والعمليات التي أدت إلى الانقلاب على ديلما واضطهاد لولا، وكذلك الطريقة التي استدعي بها الدستور لساحة الصراع السياسي، عالم المظاهر للتستر على عالم الحقائق، الحقائق التي أثرت على امتيازات النخبة المئوية. قضية الفساد الذي ربط الحكومة وشركات البناء، المعروفة بفضيحة "كار واش"، تأخذ منوال فيلم تشويق سينمائي، يفضح تواطؤ مجموعات القوى المحافظة للقضاء على التهديد اليساري. بالإضافة إلى إحالات أدبية من شكسبير وكافكا تستعين بها المخرجة (وديلما روسيف في إحدى المرات) للربط بين خبايا ومآلات الحاضر البرازيلي.‬

في ذلك البحث عن تفسير للصراع السياسي والتحقّق من جذور الصراع الطبقي في البرازيل، لا تخجل المخرجة الشابة من إعلان انحيازها الفكري لطرف دون آخر، طالما دعمت اختيارها بما يقوّي طرحها. في الوقت ذاته، تتجنّب الإغواء السهل بالتماهي مع الطرف المغلوب ولعب دور الضحية الكاملة. فرغم جنائزية نبرة الفيلم في وصفه الموت الطويل الوحشي للديموقراطية البرازيلية، إلا أنها تحتفظ بمسافة نقدية تعينها على توجيه إصبع اتهام إضافي لمعسكرها السياسي: "تأثير المال في السياسة كان السرّ الذي عرفه الجميع ولم يتعامل معه أحد بشكل فعّال. حتى بداية عملية "كار واش". كان من المؤلم أن نرى الحزب، الذي انتخبناه بناءً على وعدٍ بتغيير النظام، وهو يصبح متجذراً أكثر وأكثر في حملات التمويل المصممة بحيث تجعل التغيير مستحيلاً". ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تنسج المخرجة الشابة قماشة سردية متينة تستقصي فيها حياتها الخاصة وموقعها من تاريخ البرازيل وبناء العاصمة الجديدة برازيليا، مثلما تقدِّم أيضاً قراءة لافتة حول موقع الصور ومكان الأجساد في الصور، وكيف تصبح الصور أداة للمقاومة في مواجهة التهديدات التي تلوح في الأفق. غير أن أكثر ما يثير الاهتمام والدهشة لمتفرّج عربي هو ما يقدّمه الفيلم على صعيد التفكير في الحقائق وقراءة الواقع ودراسة الحجج والألاعيب السياسية، ليكتشف في نهايته كيف تتشابه المقدمات والنتائج في ديكتاتوريات ناشئة و"جمهوريات عائلية" وجمهوريات موز تتسابق نحو ماضيها الاستبدادي. مشاهدة ضرورية لكل مهتم بمصير الديموقراطية، في البرازيل أو في أي مكان آخر.


(*) رشّح الفيلم مؤخراً لجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي لعام 2020. وهو متاح حالياً للمشاهدة عبر "نتفليكس".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024