محمد خضير... محمد علوان جبر - شرقاً

المدن - ثقافة

الأحد 2020/06/28
 
رغم اتفاق القراء والنقاد على اعتبار قصة "تراتيل العكاز القديم" من أقرب قصص الحرب لخصائص الكاتب الفردية وأسلوبه القصصي اللمّاح، إلا أن وعي محمد علوان الباطن (مقياسَه الاستفاضي) يكاد ينغمر بمياه موزَّعة على قنوات مجموعاته القصصية الخمس بمستويات متقاربة، إضافة إلى روايتيه الاثنتين. فقد حفرت الحربُ في وجدان الكاتب ندوباً رطبة، وأفعمَتْها بهواجسَ مضنية، بدأت بالهبوب والتحكّم بأسلوبه في الفترة الأخيرة، فنشرَ مجموعة ذكريات ناقعة في بحيرة وعيه العميق على صفحات الفيسبوك؛ وكانت من قبلُ تلوح كسرابٍ بعيد يجذب شخصيتَه المهجوسة بالارتحال والخلاص من نقيعها الكثيف. وقد لا نعرف سبباً مُلِحّاً يدعو "تماثيله" الأولى للنكوص راجعةً الى الحافة المسنّنة لموقع الحرب، وقد ظنّنا أنها قطعتْ مسافةً طويلة باتجاه الحافة البعيدة، حافة التصورات عن عالم يتربص بوعي الكاتب الباطن، وينتهك خصوصياته، التي حرص على كتمانها. ربما جاءت لحظة الكشف "الشرقية" مع موعد القطار الذي كان محمد بانتظاره للانتقال والسباحة في بحيرة زرقاء صافية. جاء الموت "الشرقيُّ" لينقل التماثيلَ من مربضها، وينفخ فيها الروحَ المشبوبة بالحرية والتمرد. لكن هذا القطار توقف فجأة وتركه في محطة غريبة مع تماثيله المصطفاة، وأغرقه في صمت ثقيل وظلام موحش.


بموت محمد علوان، في ٢٢ مايس ٢٠٢٠، بدأت نصوصه بالإشارة إلى محطات مهجورة، قصدَها قطارُ الشرق البعيد، وتوقفَ فيها طويلاً. وحين صدرت قصص "شرق بعيد" العام ٢٠١١، عن دار الينابيع في دمشق، لاحظتُ في مقدمتي للمجموعة "رعب الحاضر" و"النذير اللامرئي" اللذين يحاولان شقّ سطح الواقع مثل بركان. وهو بركان صامت يدب اهتزازه في عروق القراءة دبيبَ الكائنات الخرافية المحبوسة منذ بداية التاريخ. وقصص محمد علوان تتابع معنا هذا الدبيب وتُنصِت لقدوم حُممهِ من الأعماق، وتواجهه بشجاعة ولا تهرب من كوابيسه الليلية وتهويلاته النهارية.

تستفزّ قصصُ محمد وعيَ قارئها، كي يرى بأمّ عينيه ويتبحّر فيها ولا يهرب من التحديق إلى وجوه الضحايا، اقرب الضحايا إلى قلب الكاتب، وهم يغادرون مواقعهم اللصيقة بمكانه سراعاً، ولا يعودون!

اقترب محمد من حوادث حاضرنا، ولم تَعنِه العودةُ الى الماضي البعيد، إلا بمقدار ان تكون "نزهة" أو "رحلة" في وعي يقِظ، لا تغريه هشاشةُ الأحلام، والضياع في متاهتها.. كانت قصصه وثائق سردية، وشهادات مستبصرة في نهار ساطع الشمس، لافح الحرارة.
يتصل بي محمد ويستفسر عمّا إذا وصلتني مجموعته الخامسة "الرحلة العجيبة للسيد م." (دار نينوى ٢٠١٩). كل شيء يجب أن يدور حول السيد م. ويجب ألا يفلت من ذاكرة الرحلة شيء. يحبّ أن يطمئن على كلّ شيء. لا يطلب هذا من قارئ قريب جداً إلى عالمه، صديقٍ يشاركه الرحلة اليومية المعتادة، إنما من كل قارئ يظنّ مشاركته تلك الرحلة، مهما كان بعيداً. ولا أحسبني قريباً جداً من هاجس محمد في مجموعته الأخيرة، لكنّي لستُ غريباً عن القصة المركزية فيها: "الرحلة العجيبة للسيد م.". إنها من جنس قصص العودة الى أماكن طوّقت تجربتَه الأدبية بأكملها، أقصد طوْقَ السجن والاعتقال. فهذا الموضوع هو رأس السَّهم في الرحلة، بينما كان موضوع الحرب ريشتَه فحسب، حين لا يخطئ قارئ قريب منه هذا الوضعَ النفسانيّ، المهيأ للانطلاق. فالشرقُ اتجاه يتجلّى ثانية في هذا الوضع الذي يهيمن على الجزء النائي من تجربة الكتابة. إنه - أي الشرق- اتجاه لا يشير إلى سوى أعماق داخلية متشابكة، تقع دائرة "العدالة" في مركزها؛ تلك الدائرة التي قرأنا عنها في رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا، ونقرأ عن مثيلتها هنا في قصة "رحلة م. العجيبة". ويكفي الرمز م. دليلاً نقرنه بالرمز الكافكوي ك. للوصول إلى جهة الأعماق النفسانية الخاضعة لهاجس التحقيق في تهمة غامضة.
يذهب المحامي م. الى دائرة عدلية (مجمع للمحاكم) ليتابع قضية عادية توكّل فيها، فيكتشف أن الدائرة هي عينها المعتقل الذي احتُجز فيه داخل زنزانة زمناً. يتنقل م. في دائرة العدالة هذه بحرية مع مراجعين مختلفين، بعضهم كان معتقلاً معه، ينفذ من دهليز إلى آخر، ومن زنزانة ضيقة إلى أخرى خالية، ثم يصادف امرأة كانت معتقلة في زنزانة انفرادية ملاصقة لزنزانته الرقم ٦، تتحدث الى شرطي كان قد اقتاده الى غرفة المحقق السابق، فيجد هذا جالساً إلى مكتبه نفسه في قاعة كبيرة (ضابطاً صغير الرتبة في اواسط الثلاثينات، بوجه مدور وعينين متقدتين، يدخن بشراهة نوعاً من السيجاير كان يدخنها قبل اعتقاله، ويشعلها من ولاعة فضية سُلبت منه قبل حبسه)، فيعيد شريطَ التحقيق معه من بدايته بعد أن ينهي مكالمةً من هاتف أرضي أخضر اللون. يتودد اليه المحقق هذه المرة، ويسمح له بتدخين سيجارة، ثم يتركه لشأن طارئ، فيلتقط م. ملفه الأحمر بين الملفات المرتبة على المكتب، ويغادر مبنى المحاكم. انتهت الرحلة العجيبة بالاهتداء الى باب الخروج من المبنى- المتاهة، ليجد سائقَ سيارة الأجرة التي جاء بها في انتظاره، وقد طالت أظافره خلال الزيارة القصيرة.

لم تكن رحلة م. الى دار العدالة وهماً مطلقاً، فالقصة تستعيد دلائلَ على وجودٍ عميق، وإن كان مزعزعاً ودفيناً بين أنقاض التجربة. الزنازين والمعتقلون السابقون، المرأة، والشرطي، والمحقق، أبطالٌ مرسومون بدقة، لكي لا يقال إنهم افتراضيون وطارئون على الرحلة. لا شيء حقيقي يثبّت الاتجاه نحو نهاية الرحلة، لكن هناك هاجساً قويّاً يحضّ م. على العودة إلى "محطة" راسخة، مبنى يُعاد ترميمه بين حقبة وحقبة، لإعادة شريط الأحداث مرة بعد مرة. كما لم يعمد الكاتب الحقيقي إلى تسمية بطلَه باسمٍ استعاريّ مفترض، إنما اختار له الحرف م. المنسوب لنوع من الحروف "القرمزية" التي توسَم بها جباهُ الخاطئين في النصوص "الاستغفارية" أبد الآبدين. إننا في الجحيم وخارجه، لكننا "شرقيّه" حيث كنّا يوماً في الحقيقة، خلال الحرب. بهذه الدلائل نعود بقصصنا إلى مكانها الأول، ونكتفي بواحدة، من مجموعة محمد علوان الأخيرة، دليلاً على إتمام الرحلة.

(*)مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024