لملموا معارككم الأدبية الصغيرة.. فقد صدرت رواية لطه حسين!

شريف الشافعي

الإثنين 2017/10/16
تأتي رواية طه حسين (1889-1973)، الصادرة في القاهرة منذ أيام قليلة بعنوان "خطبة الشيخ" (*)، لتفتح أبوابًا طبيعية للتعاطي النقدي مع عمل تأجل نشره في كتاب لأكثر من قرن من الزمان، على أن أحفاد عميد الأدب العربي آثروا أن يهجروا مسار الفن ليسلكوا خنادق أخرى هامشية أفضت بهم إلى اختلافات مفتعلة بشأن النص، كان الأدعى أن يتم الاتفاق حولها، أو حتى النقاش، بهدوء.

رواية طه حسين، بقدر ما تكشف عن آرائه الطليعية بشأن قضايا وأمور مجتمعية مهمة شهدتها مصر المتطلعة إلى التقدم قبيل وأثناء اندلاع الحرب العاليمة الأولى منها حرية المرأة وطبيعة التعليم المدني ومفاسد الأزهريين، بقدر ما يعكس نشرها اليوم بؤس المشهد الثقافي في بلاده، أو مجتمع النخبة المنخرط في قضايا وهمية، يصفها بعضهم بالمعارك، فما بال القرّاء العاديين الذين يجري تشتيتهم بأحاديث جانبية قبل قراءة نص العميد؟

قبيل نشر الرواية، وفي تصديرها وتقديمها، وحتى في أعقاب صدورها، تكاد تدور انشغالات النقاد والمتخصصين في مجملها حول: اكتشاف "رواية مجهولة" لطه حسين، هل تُزاحم "خطبة الشيخ" رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل في تصدر لقب "الرواية العربية الأسبق"؟ هل "خطبة الشيخ" هي محاولة طه حسين الأولى في السرد؟ هل اكتملت الرواية على هذا النحو أم أن طه حسين لم يكملها بسبب انشغالاته الجامعية؟ إلى آخر هذه العناوين الفضفاضة والتساؤلات التي بلغت أحيانًا حد السذاجة.

الطريف، أن تلك الإشكاليات الهشة حول العمل، الذي لم يلتفت إليه أحد فنيًّا، تجاوزت مجال "الصحافة الثقافية"، لتسكن نسيج الكتاب ذاته، من خلال التصدير الذي كتبه وزير الثقافة حلمي النمنم، والتقديم الذي كتبه جابر عصفور، وكان قد نشره منذ أسابيع قليلة في مقالات بصحيفة "الأهرام".

إثارة هذه النقاط من خلال الصحافة الثقافية اللاهثة وراء الخبر والإثارة ربما كان له ما يبرره، كما أنه ليس كل من يكتب متابعة في هذا المجال مختصًّا أو مشهودًا له بالأهلية والنزاهة، ولعل مقالات جابر عصفور هذه تأتي في إطار الرد على ما هو منشور "صحافيًّا" بهذا الصدد، وربما الرغبة في توضيحه، خصوصًا أن له مقالًا أسبق في الصحيفة ذاتها بعنوان "عن ريادة الروايات العربية وعدم الأمانة"، تناول فيه هذه العناوين والتساؤلات المشار إليها.

أمران يبقيان مدهشين للغاية في هذا الشأن؛ الأول: هو طبيعة هذه الإشكاليات ذاتها، التي تم تصويرها تارة كمعارك وتارة كتساؤلات جادة، والثاني: جدوى نشر هذه المساجلات في صدر كتاب طه حسين.

بالنسبة إلى "اكتشاف رواية مجهولة لطه حسين"، فالأمر ببساطة أن "دار الكتب والوثائق القومية" شرعت هذا العام 2017 في نشر مجلدات مجلة "السفور"، التي كان يديرها صديق طه حسين عبد الحميد حمدي، ومن ضمن منشورات هذه المجلة 15 رسالة تشكل بنية رواية "خطبة الشيخ" التي تدور أحداثها في العام 1913، وقد نشرها طه حسين بالمجلة بداية من العدد 72 (الصادر في 20 من أكتوبر 1916)، حتى العدد 85 (الصادر في 19 من أكتوبر 1917).

كان ممكنًا أن يُعهد بهذا التوضيح إلى الناشر عبر سطور قليلة بدلًا من ديباجتي النمنم وعصفور المطولتين، خصوصًا أن هناك فرقًا بين "إعادة النشر" وبين "الاكتشاف"، فطه حسين نشر رسائل "خطبة الشيخ" بغرض واضح هو أن تكون رواية أو مشروع رواية على اعتبار أنها لم تكتمل، ولا ينتقص من وضوح نيته أن مادته كانت تنشرها المجلة مرة في "باب الأدب"، ومرة في "باب الاجتماع"، إذ "كانت تصنيفات المجلة مرنة، بحيث تتيح نشر الموضوع الواحد تحت أكثر من عنوان"، وفق حلمي النمنم في تصديره.

وإذا كان جابر عصفور يسخر من وصف الصحافة الثقافية نشر رواية طه حسين بأنه "اكتشاف مهول لدار الكتب والوثائق القومية، يفتح باب متابعة بداية الكتابة الفنية للرواية العربية"، فإنه في الوقت نفسه لا يفند "الاكتشاف" ذاته كفكرة، وإنما يحاول أن ينسب هذا "الاكتشاف" (الذي يسخر منه!) إلى آخرين (منهم أنور مغيث)، حيث كان لهؤلاء الأسبقية في الكتابة عن "الروايات المنشورة في السفور" بأقلام طه حسين ومحمد حسين هيكل ومنصور فهمي وغيرهم.

في الوقت ذاته، يحاول عصفور أن ينسب إلى نفسه أسبقية التمهيد لـ"اكتشاف" رواية طه حسين، وذلك في أثناء توليه الإشراف على دار الكتب والوثائق المصرية (فى الفترة من 7/7/1997 إلى 4/3/1998)، حيث عهد إلى المؤرخ الراحل رؤوف عباس بإعداد مشروع عن استكمال ما لم ينشر من ميراث طه حسين، وما لا يزال موزعًا بين الدوريات المختلفة. ويقول عصفور في هذا الأمر: "كان من المنتظر أن تصدر المجلدات الخاصة بالأدب، سواء الإنشائي أو الوصفي إذا استخدمنا مصطلح طه حسين. ورواية خطبة الشيخ تنتسب إلى الأدب الإنشائي الذى كتبه طه حسين متابعًا وداعيًا إلى الأفكار والمبادئ التى تبنتها السفور، والتي تحمس لها مؤسسوها مع صديقهم عبد الحميد حمدي". أي أن عصفور لو استمر في منصبه، فإنه لا محالة كان سيصل هو ولجنته إلى "الاكتشاف"، الذي ينكره الآن على إدارة دار الكتب قائلًا "هذا الاكتشاف لا يدخل في باب الاكتشافات إلا على سبيل التزوير"!

المثير للدهشة أكثر وأكثر، أن وزير الثقافة حلمي النمنم ينفي بوضوح تام مُضيّ لجنة جمع تراث طه حسين، التي شكلها جابر عصفور في أواخر التسعينيات، في مسار الكشف عن منشورات طه حسين في "السفور"، إذ يقول النمنم في تصديره لرواية "خطبة الشيخ": اهتم مشروع جابر عصفور بكتابات طه حسين منذ أواخر العشرينيات، أما كتاباته الأولى في السفور والمجلة والهدى وغيرها، فلم تجد اهتمامًا كبيرًا، وهذا ما تعمل دار الكتب والوثائق القومية الآن على استكماله".

أما التساؤلات الأخرى في ميدان المعارك الهشة بين التنويريين الجدد، فمنها: هل تُزاحم "خطبة الشيخ" رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل في تصدر لقب "الرواية العربية الأسبق"؟ وهو تساؤل بالغ السذاجة، فمن جهة فإن رواية "زينب" كتبها محمد حسين هيكل في 1912 ونشرها في 1914، في حين أن "خطبة الشيخ" منشورة ما بين 1916 و1917، وتدور أحداثها في 1913، والأهم منذ ذلك أن هناك روايات أخرى عديدة سبقت الاثنتين، وفق نقاد كثيرين، منها: "الفتى الريفي" لمحمود خيرت (1904) و"عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي (1907).

ويذهب جابر عصفور إلى وجود أكثر من رواية سبقت "زينب" و"خطبة الشيخ"، ويجيب كذلك في تقديم "خطبة الشيخ" المسهب عن تساؤل آخر "سهل" من بين ما أثاره محترفو اختلاق القضايا والمعارك والاختلاف حول ما لا ينبغي الاختلاف حوله، هذا التساؤل هو: هل "خطبة الشيخ" هي محاولة طه حسين الأولى في السرد؟

يقول عصفور موضحًا: "خطبة الشيخ هي الرواية الأولى التي كتبها طه حسين خلال زمن بعثته الفرنسية، نشرتها "السفور" سنة 1916، حين بدأ طه حسين دراسته في جامعة باريس؛ لكى يحصل على درجة الدكتوراه، وكان طه حسين قد سافر إلى مونبلييه، وظل في جامعتها ما يقرب من عام إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى في 1914، وعانت الجامعة الأهلية من نقص حاد في التمويل والميزانية، فاضطرت إلى إعادة عدد من طلابها الذين بعثت بهم إلى فرنسا؛ ليتلقوا العلم فيها، فعاد طه حسين مع صديقه أحمد ضيف الذي كان يدرس مثله في فرنسا، وفرح به أصدقاؤه في السفور، ورحبوا بعودته على صفحات الجريدة".

ثم بعدما عاد طه حسين إلى فرنسا مجددًا، كما يسرد عصفور، أرسل إلى الجريدة رواية "خطبة الشيخ"، التي تجري أحداثها العام 1913، كما نعرف من الهوامش المكتوبة في ذيل كل رسالة من الرسائل الـ15 التي تتكون منها الرواية. وتاريخ نشر الرواية "يمتد من العدد 72 الصادر في 20 أكتوبر 1916، إلى العدد الخامس والثمانين الموافق 19 أكتوبر 1917، وذلك بعدما عاد طه حسين إلى فرنسا، والتحق بجامعة باريس هذه المرة، وقبل أن ينشغل انشغالا كاملا بأطروحته لدرجة الدكتوراه ومتطلباتها".

أما تساؤل: "هل اكتملت رواية خطبة الشيخ على هذا النحو الذي ظهرت به في الكتاب، أم أن طه حسين لم يكملها بسبب انشغالاته الجامعية؟"، فإن القراءة الفنية الخالصة، حتى من غير المتخصصين، تكاد تقدم إجابة حاسمة بأنها "رواية غير مكتملة"، على عكس ما يذهب إليه جابر عصفور في تقديمه، إذ لعل هذا "الانتقاص" يقلل من أهمية "الاكتشاف" وفق رؤيته، أو من وجهة نظر وزارة الثقافة، راعية "الحدث" الذي جرى الترويج له دعائيًّا وإعلانيًّا على هذا النحو المثير.

يرى عصفور أن "خطبة الشيخ" رواية ملتبسة، إذ "يمكن أن نقرأها على أنها مكتملة ومكتفية بذاتها؛ لتحقيق أهداف طه حسين من وراء كتابتها، ويمكن أن نقرأها على أنها رواية غير مكتملة، وأن ما نشر منها هو مقدمة لما يتوقع أن تنتهي به الأحداث فى الرواية". 

تتألف "خطبة الشيخ"، على النحو الذي ظهرت به في الكتاب، من 57 صفحة فقط، تتضمن 15 رسالة متبادلة بين أبطال العمل الخمسة: "إحسان"، وصديقتها "أسماء"، والمتقدم لخطبة إحسان "الشيخ علام الجيزاوي"، وصديقه "الشيخ زهران فتح الباب"، ووالد إحسان "سيد رحمي".

تدور الأحداث حول محور وحيد هو تقدم الشيخ الأزهري علام الجيزاوي لخطبة إحسان، المرأة المتعلمة تعليمًا مدنيًّا وتعمل معلمة، ويصيبها التردد إزاء القبول أو الرفض، ومن ثم تلجأ إلى صديقتها ببعض الرسائل كي تستشف رأيها، كما تتحاور مع والدها عبر رسائل أخرى من دون أن يفرض عليها رأيًا. وبدوره يتشاور علام الجيزاوي مع صديقه زهران فتح الباب، طالب مدرسة القضاء الشرعي (القسم العالي)، ثم تنقطع الرسائل فجأة قبل حسم قرار إحسان بالموافقة أو الرفض، وقبل الإجابة عن كثير من الأمور المعلقة بالرسائل المتبادلة بين الأبطال جميعًا.

تقدم الرواية ما يمكن القول إنه تصورات طه حسين نفسه بشأن المتوقع من تصرفات وآراء الشخصيات، فإحسان امرأة متعلمة مثقفة منفتحة الأفق على قضايا المرأة وحقها في التعليم والعمل واختيار الزوج ومناقشة الأب، والخطيب علام الجيزاوي شيخ أزهري منغلق التصورات يتسم بالانتهازية وينتقد سلوك إحسان وعائلتها لكنه يرغب في الزواج منها طمعًا في ثروتها، وصديقه أكثر انغلاقًا منه ويحذره من الزواج ممن قد يكون التعليم قد أفسدها. 
وعلى النقيض، فأسماء صديقة إحسان مفرطة في التحرر، وتحذر صديقتها من مؤسسة الزواج، ومن الاقتران بأزهري قد يغل حريتها ويقهرها ويلغي رأيها وإرادتها، فيما يمثل الأب سيد رحمي والد إحسان الوسطية، حيث يوازن بين إفساح الحرية لابنته في التعلم والعمل والقدرة على اتخاذ قرار، وبين رغبته في إتمام زواجها بسلام من رجل يبدو له ملتزمًا دينيًّا.

مؤشر الصراع الذي تبرزه الرسائل يشي بأنه لا يزال في حالة الصعود حتى الرسالة الأخيرة، الخامسة عشرة، فحيرة البطلة لا تزال متأججة، وهواجسها إزاء الأزهري المتزمت تكبر يومًا بعد يوم، كما أن الحيلة التي اتفقت مع صديقتها عليها لم يتم تنفيذها بعد، وهي أن تخبر إحسان خطيبها "بالكذب" بأنها ستتنازل عن ثروتها كاملة، كي ترى رد فعله من إتمام الزواج منها أو زهده فيها، وقد انقطعت الرسائل قبل اكتمال هذه الخطة.

التقنية الجديدة في كتابة الرواية (أسلوب الرسائل)، التي اعتمدها طه حسين من الأدب الفرنسي آنذاك، لم تعصمه من بدائية تلبيس الشخصيات جميعًا معطيات روحه وأفكاره هو، وإنطاق الشخصية أحيانًا بما لا يتسق معها معرفيًّا وفكريًّا ولفظيًّا، إلى آخر هذه السمات التي شابت الروايات العربية الأولى التي كانت مرآة لنقل ما يخص المؤلف نفسه.

في هذا الإطار، من الصعب للغاية تصور أن يترك طه حسين النهاية مفتوحة على هذا النحو، وألا يُعالج الكاتب المحور الوحيد للرواية بمزيد من التوضيح أو الحسم، كما أن الرواية بهذا الشكل قصيرة ومبتسرة، لا تزال في طور النمو، وأغلب أطروحاتها وتساؤلاتها المنثورة بالرسائل لا تزال معلقة، الأمر الذي يجعل فرضية أن الرواية لم تكتمل هي الحقيقة شبه المؤكدة، خصوصًا في ظل انشغال طه حسين بدراسته الجامعية، وابتعاده عما سواها في هذه الفترة.

"خطبة الشيخ"، مشروع رواية حديثة الشكل، غير مكتملة البناء والأداء الفني، تطرح قضايا مجتمعية تنويرية، وأفكارًا طليعية مجردة وعميقة بخصوص التعليم والعمل والحرية وحقوق المرأة وفساد شيوخ الأزهر، في فجر النهضة المصرية منذ قرن من الزمان. 

أما نشر الرواية اليوم، فهو عمل توثيقي مهم، أخرجته الدعاية الترويجية الفجة، والمبالغة، من إطار الجد إلى ضجيج قح، طغى على كل شيء، بما في ذلك صوت العمل الفني نفسه.
 
(*) "خطبة الشيخ"، طه حسين، الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 96 صفحة، الطبعة الأولى 2017، تصدير: حلمي النمنم، تقديم: جابر عصفور.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024