ماذا تغير في أيا صوفيا؟

محمود الزيباوي

الأربعاء 2020/07/22
شهد طورسون بك دخول محمد الفاتح إلى القسطنطينية، ونقل فصول هذا الدخول في كتابه المسمّى "تاريخ أبو الفتح". بحسب هذه الشهادة التي يغلب عليها الطابع المدائحي، عَبَر السلطان في بعض أحياء المدينة على حصان أبيض، ثم رغب برؤية الكنيسة المسمّاة أيا صوفيا، وهي "الصورة المنعكسة للجنة"، وفيها قال الشاعر: "إن كنت تبحث عن الجنة أيها الصوفي/ فان أيا صوفيا هي الأقرب إليها". 
 
يصف طوسون بك مبنى أيا صوفيا الذي يختزل "كل منابع علم الهندسة المعمارية"، ويؤكد أن مساحته الداخلية بإمكانها أن تضم خمسين ألف شخص، ثم يسجّل افتتان الفاتح بهذا الصرح العظيم عند حلوله فيه. تأمل السلطان في "الصور الغريبة والخلابة التي تزين الفضاء الداخلي للمبنى"، ثم صعد إلى الطابق الأعلى، "على مثال المسيح، روح الله الذي صعد إلى فلك السماء الرابع"، وراح يتأمل في كل زاوية من زوايا القاعات، وبلغ القبة، فتتطلّع ورأى الخراب الذي حل بملحقات المبنى، وراح يفكّر بزوال هذا العالم الباطل، فاجتاح الحزن قلبه، وهمس قائلاً: "تنسج العنكبوت شبكتها في قصر كسرى، والبومة تطلق نهامها في إيوان أفراسياب".

جعل محمد الفاتح من كنيسة القسطنطينية العظمى مسجدها الأعظم، ولم يمسّ هذا التحول بنية هذا الصرح التي شكّلت كما نعرف مثالاً لبناء المساجد في العهد الأموي. في الواقع، كان هذا البناء بفضائه المفتوح ملائماً تماماً لهذا التحوّل الذي اقتصر على العناصر الخاصة بالصلاة الإسلامية. ألغي الهيكل، ودُمّر المذبح، واستبدل بمنبر وبمحراب، وبقيت القبة العظيمة رمزاً للأخدار السماوية، في الإسلام كما في المسيحية. ماذا فعل الفاتح بالصور الفسيفسائية المسيحية التي تزين الكنيسة التي أضحت مسجداً؟ تشير النصوص التي تعود إلى الفترة الممتدة حتى نهاية القرن السابع عشر إلى حضور بعض من هذه الصور، ومنها صورة المسيح الطفل متربعاً في حضن والدته العذراء. وتشير النصوص التي وُضعت في المرحلة اللاحقة إلى غياب هذه الصور بشكل تام.

ظلت هذه الصور مخفية منذ القرن الثامن عشر إلى أن عهد السلطان عبد المجيد الأول إلى مهندسيَن من إيطاليا السويسرية هما الأخوان غاسبار وجوزيبي فوساتي بمهمة ترميم الصرح وتجديده في 1847. اكتشف المهندسان لوحة من هذه اللوحات، وسارعا إلى نقل الخبر إلى السلطان، فحضر، وأبدى اعجابه بهذا الاكتشاف، وكلّف المهندسين بمواصلة عملية البحث والتنقيب، فواصلا العمل، وأخرجا إلى النور مجموعة من اللوحات، وقاما بترميمها وتثبيتها، وأنجزا رسوما توثيقية خاصة بها، ثم عمدا إلى تغطيتها بطبقة رقيقة من الكلس الأبيض، وزينا هذه المساحات بتقاسيم تشكيلية تستوحي زينة الكنيسة الأصلية. 

بعد سقوط الخلافة العثمانية، عهد مصطفى أتاتورك إلى "المعهد البيزنطي الأميركي" بمهمة ترميم أيا صوفيا في 1931، وبعد ثلاث سنوات، جعل من المسجد إلى متحف. أشرف العالم الأميركي توماس ويتيمور على أعمال هذه البعثة، وأدت هذه الأعمال إلى ظهور مجموعة من الصور الفسيفسائية، منها تلك التي قام الأخوان فوساتي بتوثيقها في رسوم مائية، ورأى توماس ويتيمور عندها ان هذه الصور الفسيفسائية نجت بشكل أساسي نتيجة لأعمال الصيانة والتثبيت التي أنجزها الأخوان فوساتي.

تعود هذه الصور الفسيفسائية المسيحية إلى مراحل متعددة تمتد من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، وتتوزع على نواحي مختلفة من المبنى. كما هو معروف، شرع الإمبراطور يوستينيانوس الكبير في تشييد أيا صوفيا في شتاء 532، وافتتحها في نهاية 537. وأكمل الإمبراطور يوستينيانوس من بعده مهمة تزيين الكنيسة خلال عهده الذي استمر من 565 إلى 578. وتوحي النصوص التي تعود إلى هذه الحقبة بأن هذه الزينة خلت من العناصر التصويرية، وقد بقي منها اليوم حلل عديدة تؤكد هذا الطابع التجريدي الفردوسي.  

في القرن الثامن، تصدّرت قضيّة الصورة الدينيّة واجهة الحياة الكنسية والمدنية في الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت ساحة لطرح الخلافات القائمة حول شخص المسيح وخصائص طبيعته الانسانيّة وصورته الماديّة، وكانت نتيجة هذه الخلافات حرباً عسكريّة ومباحثة جدلية في اللاهوت والناسوت دامتا سحابة مئة وعشرين عاماً. تُعرف هذه الفترة التاريخيّة بحرب الأيقونات، وقد امتدّت في أنحاء الامبراطورية حيث أنقسم المجتمع الى حزبين: فريق يرفض الصور رفضاً قاطعاً وآخر يناصرها ويعلن ولاءه لها. انتهت هذه الحرب في عام 787، يوم دعت الامبراطورة إيريني الى انعقاد المجمع المسكوني السابع في نيقية، حيث اجتمع 375 أسقفاً ودعوا الى تكريم الأيقونات بالاكرام نفسه الذي يقابل به الصليب والأناجيل المقدسة. 

في القرن التاسع، في كنيسة أيا صوفيا، استُبدل الصليب العاري الذي كان يزين حنية القبة بصورة تمثل المسيح الطفل متربعاً في حضن والدته، كما تقول عظة وضعها البطريرك العلامة فوتيوس في هذه المناسبة. وهذه الصورة هي تلك التي ظلت حاضرة في العهد العثماني الأول، وهي واحدة من الصور التي خرجت من جديد إلى النور في النصف الأول من القرن العشرين. يحيط بالطفل السيد في الأصل رئيسا الملائكة جبرائيل وميخائيل، وقد تلاشت صورة ميخائيل، وبقيت صورة جبرائيل ماثلة.

في الرواق المؤدي إلى هذه القبة، تشير الوثائق التي تركها الأخوان فوساتي إلى حضور مجموعة كبيرة من القامات المنتصبة تمثل ستة عشر نبياً وأربعة عشر أسقفاً من آباء الكنيسة. بقي من هذه الصور قامات يوحنا الذهبي الفم واغناطيوس الإنطاكي واغناطيوس الإنطاكي، وهي من نتاج نهاية القرن التاسع. وإلى هذه الحقبة تعود مجموعة من الصور المجتزأة عُثر عيها بين 1950 و 1954 في غرفة قائمة في الجهة الغربية من المبنى، وتحوي هذه المجموعة صورا لأربعة من البطاركة الذي حاربوا محطّمي الصور، مما يعطيها دلالة تاريخية خاصة.

كانت صورة المسيح تزين القبة الكبيرة وفقا للتقليد السائد، وقد خربت هذه الصورة في الماضي، واستبدلت بصورة أخرى مماثلة في 1355، وتشير أعمال الأخوان فوساتي إلى ضياع هذه الصورة في القرن التاسع عشر. تحيط بالمسيح أربع ملائكة من الساروفيم، وهي الملائكة التي تحيط بالعرش الإلهي، وتتلو نشيد التقديس: "قدوس، قدوس، قدوس". بقي من هذه الملائكة ملاكان في الجهة الشرقية، ويبدو أنها من الصور التي جرى تجديديها إثر الزلزال الذي تعرّضت له القسطنطينية في 1346. 

من نتاج القرن العاشر، نجد صورة للإمبراطور ألكسندر، وصورة للإمبراطور لاون العاشر ساجدا أمام المسيح الجالس على العرش. تعلو هذه الصورة باب المدخل الخاص بالأباطرة، وتتميز بحضور العذراء والملاك جبرين في قرصين يحتلان القسم الأعلى من التأليف، في إشارة إلى نص احتفالي خاص بعيد البشارة وضعه الإمبراطور الملقّب بالحكيم. فوق باب المدخل الرئيسي، نقع على روح تذكاري يمثل الإمبراطور قسطنطين والإمبراطور يوستينيان منحنيين أمام العذراء والطفل. يحمل قسطنطين مجسما للمدينة التي بناها وأطلق عليها اسمه، ويحمل يوستينيان مجسّما للكنيسة التي شيّهدها باسم أيا صوفيا، أي الحكمة الإلهية. وترمز الصورة إلى ان المدينة والكنيسة تعودان إلى المسيح الكلمة الذي تجسّد "من الروح القدس، وولد من مريم العذراء، وصار إنساناً"، بحسب قانون الإيمان المسيحي.

في القرن الحادي عشر، اضيف لوح يُمثل المسيح على العرش بين الإمبراطور قسطنطين التاسع مونوماخوس والإمبراطورة زوي بورفيريوجينيتا، وفيه يقدم الإمبراطور إلى المسيح رومة ترمز إلى ثروة الإمبراطورية، وتقدم الإمبراطورة في حركة موازية صكاً يحمل كتابة تشير إلى اسمها ولقبها ودورها. وفي القرن الثاني عشر، أضيف لوح آخر يتبنّى تأليفا مشابها، وفيه تظهر العذراء والمسيح الطفل بين الإمبراطور يوحنا الثاني كومنينوس وزوجته الإمبراطورة إيرينا المجرية. وقد أٌضيف إلى هذا اللوح لوح يمثل ألكسي، ابن الإمبراطورين، وشريكهما في العرش.   

من الحقبة البيزنطية الأخيرة، نقع على لوح بديع يستعيد النموذج المتوارث المعروف بالشفاعة. يجلس المسيح على العرش مباركاً بيده اليمنى العالم، حاملا بيده اليسرى انجيل الحياة الجديدة. تقف العذراء عن يمين السيد، ويقف يوحنا المعمدان عن يساره، وتتجّه أيديهما نحوه في تضرّع وتشفّع بالخليقة. 

تختزل هذه الصور الجمالية البيزنطية، وهي الجمالية التي تطرّق إليها ابن عربي في "الفتوحات المكية"، ورأى فيها تعبيرا عن "توحيد التجريد من طريق المثال" الذي يمثله المسيح، وذلك "لأن وجود عيسى عليه السلام لم يكن عن ذكر بشرى، وإنما كان عن تمثل روح في صورة بشر، ولهذا غلب على أمّة عيسى بن مريم دون سائر الأمم القول بالصورة، فيصوّرون في كنائسهم مثلا، ويتعبّدون في أنفسهم بالتوجه إليها، فإن أصل نبيهم عليه السلام كان عن تمثّل، فسرت تلك الحقيقة عيسى، وانطوى شرعه في شرعه، فشرع لنا صلى الله عليه وسلم لنا أن نعبد الله كأنا نراه، فادخله لنا في الخيال، وهذا هو معنى التصوير.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024