موسم "انتحار أميمة عبدالوهاب"

عمر قدور

الجمعة 2021/04/02
البرهان على "معبود الجماهير"
يُستذكر عبدالحليم حافظ في ذكرى وفاته، في الثلاثين من آذار، أحياناً بعجالة صحافي يريد تقديم فروضه لهيئة التحرير، وأحياناً بقدر من الحماس تسعفه مكانة الراحل الغنائية، مُضافة إليها معاناته مع المرض ووفاته المبكرة وهو في السابعة والأربعين من العمر. في التطرق إلى وفاته، يندر أن نقرأ لأحد لا يشير إلى الصدمة العظيمة لوفاته، وإلى إقدام فتيات على الانتحار لشدة تعلقهن به. إشارة كنا لنأخذها على سبيل المبالغة لولا أميمة عبدالوهاب.

بانتحار أميمة عبدالوهاب تنزل مبالغة الحديث عن "انتحار فتيات" من المطلق إلى النسبي، إذ يكفي انتحار فتاة واحدة، معروفة بالاسم، للبرهان على "معبود الجماهير". ذلك لا يقتضي انتحار كوكبة من النساء، إنه فرض كفاية بالتعبير الإسلامي. قبل انتحارها كتبت هذه الرسالة: "سامحني يا رب على ما فعلت بنفسي، لم أقوَ على تحمل هذه الصدمة بوفاة أعز وأغلى ما في الحياة عبد الحليم حافظ، فقد كان النور الذي أضاء حياتي، واليوم الخميس كرهت الحياة منذ اللحظة التي قرأت في الصحف خبر وفاته". ثم تفترق الروايات التي تشير إلى انتحارها، بين إلقائها بنفسها من شرفة شقة عبدالحليم أو صعودها إلى العمارة ذاتها وإلقائها بنفسها من مكان ما فيها. الاحتمال الثاني هو الأكثر ترجيحاً، مثلما من المرجح أن تكون الوحيدة التي أقدمت على الانتحار رغم الإشارات المتواترة مرة إلى ثلاث نساء، ومرة إلى سبع، أقدمن على الانتحار بإلقاء أنفسهن من شرفات المنازل!

رسالتها ثم ذهابها إلى العمارة بقصد الانتحار، ينطويان على الاحتجاج الذي يُراد له أن يكون تراجيدياً. فهي لم تنتحر في مكانها، "في حارتها أو منزلها"، بل اختارت المسرح النموذجي لفعلها، المسرح الذي كانت تتجه إليه الأنظار في ذلك الوقت. أيضاً، من شرفةٍ في تلك العمارة، كانت للمرة الأخيرة تشارك الراحل مكانه قبل أن تقفز لتشاركه مصيره.

لعل التعبير الأفضل هو الحس الميلودرامي، وهذا الوصف أقرب إلى نوعية أفلام عبدالحليم، الأفلام التي في معظمها تُظهره بمظهر الفقير الشهم الموهوب الذي يجد فرصته في الوصول إلى الشهرة بعد مكابدة وعناء، فلا تُنسي الخاتمة السعيدة ما سبقها من عذابات. من المحتمل جداً أن تكون أميمة قد رافقت نجمها في جميع هذه الأفلام، من المحتمل مثلاً أنها كانت حبيبته سميحة في "الوسادة الخالية"، أو أخته "سميحة أيضاً" في "البنات والصيف". 


كما نعلم، صورة النجم الذي يحصل على فرصته بعد عناء لم تكن محصورة في أدواره السينمائية، بل هي الصورة الرائجة عن السيرة الشخصية لعبدالحليم، حيث لا يندر أن نصادف كلاماً عن تقدّمه إلى اختبار في الإذاعة رُفض فيه اعتباره مغنياً. ذلك بخلاف ما يقوله صديقه وزميله في الدفعة نفسها في المعهد الموسيقي، إذ يروي كمال الطويل "الذي كان مشرفاً على قسم الموسيقى في الإذاعة"، في حوار مع ليلى الأطرش، كيف زكّى عبدالحليم لرئيسه حافظ عبدالوهاب الذي وافق عليه، متحفظاً على كنيته "شبانة" غير الصالحة برأيه لاسم فني، فاقترح الطويل فوراً "واعترافاً له بالجميل" أن يصبح اسمه عبدالحليم حافظ. وبقيت عقبة، هي موافقة العميد عبدالحميد عبدالرحمن، مستشار الإذاعة للموسيقى آنذاك، وكان جوابه أنه لا يكترث بعبدالحليم أو سواه، فلديه اسم مطلوب نجاحه أيضاً وسيوافق على عبدالحليم في حال موافقتهما على ذلك الاسم. وهكذا تمت الصفقة.

لم يكن القبول في الإذاعة وحده كافياً، فالملحنون لم يكونوا متحمسين لصوت عبدالحليم، خصوصاً في وجود أصوات تجيد أداء مختلف أنواع الطرب العربي مثل محمد عبدالمطلب، إلى أن أتت الانطلاقة مع "على قد الشوق" من ألحان كمال الطويل، و"صافيني مرة" لمحمد الموجي. ربما لم يُتح لأميمة عبدالوهاب معرفة ملابسات بداياته، كما سيسردها كمال الطويل، إلا أنها كانت تعرف على نحو ما أن إيجاد مكان في وسط غنائي مزدحم ليس سهلاً، وقد لا يخلو هذا الوسط من المكائد و"الأشرار". لقد كانت المنافسة حقاً على أشدّها، وفي إحدى الحفلات مثلاً أطالت أم كلثوم الغناء، ليأتي دور عبدالحليم بعدها وقد اكتفى الجمهور من الطرب وبدأ بالانسحاب، وليقف عبدالحليم على المسرح ويتحدث عن المقلب الذي تعرض له.

للتجرؤ على انتقاد سيدة الغناء، ضريبة، حتى إذا بادرت هي إلى الإساءة. وهكذا، لن يغفر الجمهور للنجم الصاعد فعلته، حتى تنتشر تلك الصورة الشهيرة له وهو يقبّل يد سيدة الغناء. هذه الحادثة ليست الوحيدة، بل تزيدها شهرةً، حادثةُ رفع أم كلثوم دعوى ضد محمد الموجي لتأخره عليها بعدما قبض سلفة للتلحين، وعندما عاتبها على مقاضاته، ردّت بما يكشف السبب الأساسي لغيظها، فقالت أنها كلما سألت عنه، علمت أنه مع شادية أو عبدالحليم.
 

جبار.. جبار
من المستبعد أن يكون لأميمة عبدالوهاب ذلك العقل البارد الذي يجعلها تنتبه، بما لذلك من دلالات، إلى تتر فيلم "لحن الوفاء"، حيث يظهر اسم شادية بدايةً ثم "لأول مرة عبدالحليم حافظ"، وإلى تتر فيلم "معبودة الجماهير" الذي يُستهل بـ"بطولة عبدالحليم حافظ" قبل اسم شادية. لقد انتقل محبوبها إلى المقدمة، وحتى عنوان "معبودة الجماهير" مخاتل إذ يُجهِز النجم الصاعد على مَن كانت تحمل اللقب.

في حديثه المشار إليه سابقاً، يقول كمال الطويل أن حب القيادة من طباع عبدالحليم، وهي صيغة ملطّفة عن ذكريات لآخرين مع العندليب، تكشف حبه للسيطرة، أو بتعبير الأبنودي: عبدالحليم عاوز يكون هو النجم اللي بتدور حواليه الكواكب. سيجعل ذلك لمعاركه الفنية طابعاً فريداً، وحادثة "اعتقاله" عبدالرحمن الأبنودي فيها دلالة عميقة بعد تجاوز مستواها الأول الطريف. كان الأبنودي في الاستديو، رفقة بليغ حمدي ومحمد رشدي، لتسجيل أغنية، عندما أتى رجلان بهيئة عناصر المخابرات وطلبا منه مرافقتهما، وهو استجاب لقناعته بأنهما يعتقلانه. سيدخله الرجلان شقة عبدالحليم، الجالس وظهره إلى الباب إمعاناً في استكمال العرض. لتبدأ من هذا اللقاء الغريب شراكة فنية اشتهرت كثيراً، رغم تباين طباعهما وتناقضها أحياناً.

كان لصلاح جاهين الفضل في وصول الأبنودي إلى الإذاعة، وفي لقائه محمد حسن الشجاعي، المسؤول عن النصوص التي تُغنى. وغداة ذلك اللقاء، قدم له الأبنودي ثلاثة نصوص تحفّظَ على واحد منها بالقول: إيه الكلام ده! يَمَني؟ كانت تلك أغنية "تحت السجر يا وهيبة" التي لم تجد من يلحّنها، حتى أُعجب بالكلمات عبدالعظيم عبدالحق، وعقّب الشجاعي على إعجابه قائلاً: ما انتو صعايدة زي بعض. أما استنكار الشجاعي بوصفه الكلام بأنه يَمَني، فمن المحتمل جداً أن يكون ذا صلة بتدخل قوات عبدالناصر في اليمن آنذاك، وأن تكون قد تضافرت فيه النظرة المتعالية إلى الصعيد واليمن معاً.

نجح محمد رشدي في "تحت السجر يا وهيبة"، لكن اسم عبدالعظيم عبدالحق كملحّن لن يلفت انتباه عبدالحليم الذي سيستشعر الخطر مع نجاح أغنية "عدوية" باجتماع الثلاثي: الأبنودي وبليغ ومحمد رشدي. قرر عبدالحليم جلب الأبنودي بتلك الطريقة المخابراتية، إذ أدرك أن الكلمات هي الأساس في موجة تنذر بخطر على مكانته، وعلى نوعية الغناء العاطفي الذي يمثّله.

في ذلك اللقاء، وبعد موافقة الأبنودي على الكتابة له، سيكون عبدالحليم واضحاً في أنه لا يقبل غناء كلمات من قبيل "ف إيديا المزامير وف قلبي المسامير"، وسيكون واضحاً أن من لن يقبل بالعبارة السابقة لن يقبل بكلمات من نوع "يا أم الخدود العنّابي.. يا أم العيون السنجابي". الثمرة الأولى للمساومة ستكون أغنية "التوبة"، لتختفي العيون السنجابي وتحل محلها العيون السود الأثيرة في الغناء العاطفي، ولا بأس إذا لم يحسن الكورس أداء كلمة "أقول" باللهجة المطلوبة، أي بلفظ القاف كالجيم المصرية، وحتى لحن بليغ للأغنية سيقبل به عبدالحليم على مضض لأنه رأى مقدمته شبيهة بالموسيقى التي تُعزف في افتتاح السيرك.

كانت موجة الأغنية الشعبية تحمل اقتراحاً لغوياً مغايراً جداً للسائد، فتخرج عن الألوان المتعارف عليها، إلى ألوان من نوع العنابي والسنجابي، ولا تكترث بالورود في حين تفسح مكاناً للشجر والثمار مثل "تحت السجر يا وهيبة ياما أكلنا برتقان" أو "آه يا ليل يا قمر.. المنجه طابت ع السجر". وكانت ثمة أريحية في التعامل مع الضمائر والتنقل بينها، كما هو الحال في أغنية "متى أشوفك" لمحمد رشدي من كلمات محمد حمزة. مثلما كانت هناك مساحة أوسع لأسماء حبيبات من نوع وهيبة وعدوية وبهية. الحل الذكي الماكر الذي اجترحه عبدالحليم، هو ركوب الموجة، بهدف ترويضها وإفراغها مما سبق، وفي أثناء ذلك، الرهان على عامل الوقت الذي سيجعل منها مجرد موضة عابرة.

لعل في تلك الكلمات "اليَمَنية"/ بحسب تعبير الشجاعي، احتجاجاً مضمراً على مركزية القاهرة، وعلى لغة المركز السائدة وسهلة الفهم خارج مصر أيضاً، آخذين في الحسبان "الإمبريالية" الناصرية التي صادف في عهدها الانتشار الواسع للفن المصري. لعل فيها احتجاجاً ما على شعارات العروبة، وقد لا يخلو من مغزى أن يُعتقل في عهد الناصرية ثلاثة من كبار شعراء العامية، فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي. كانت أميمة عبدالوهاب صغيرة عندما حُسمت المعركة، فأُعيدت اللغة الشعبية إلى مكانها الهامشي المعتاد، ولم يسعفها انتحارها لتسترجع مثلنا تلك الحقبة.

فتى الناصرية المدلل
بموجب سنّها عندما انتحرت، كانت أميمة عبدالوهاب طفلة أثناء الحقبة الناصرية لعبدالحليم، والتي بدأ ينسحب منها تدريجياً بعد هزيمة حزيران. علاقته بالناصرية لم تكن كعلاقة أم كلثوم أو عبدالوهاب بها، فلكل منهما إرث مع النظام الملكي السابق، في حين أنها كانت تجربته الوحيدة مع السلطة. نحن فقط نركّب الوقائع لتكون أقوى إذا دمجنا هذين المشهدين في اللحظة ذاتها. وفي لحظة إعلان الهزيمة، كان بليغ حمدي يعضّ السجادة الزرقاء في صالون عبدالحليم من فرط تأثره وانكساره، بينما صاحب البيت يلتفت إلى الأبنودي متسائلاً عمّا ينبغي لهما فعله بوصفهما يتحملان قسطاً من المسؤولية أمام الناس، بسبب تلك الأغاني "الوطنية" المتفائلة التي قدّماها قبل الهزيمة.

لحظة الهزيمة كان عبدالحليم يفكر كفتى الناصرية المدلل، مغنّيها الذي لطالما أحيا الحفلات السنوية في 23 يوليو. بليغ حمدي لم يكن شريكاً في ذلك، مثل صلاح جاهين والأبنودي وكمال الطويل الذي لحّن العديد من تلك الأغاني، بل عندما أراد الأخير أن يبتعد قليلاً ورفض تلحين إحدى الأغاني، استنكر امتناعه شمس بدران "العسكري القوي المعروف ببطشه" الذي كان في ضيافة عبدالحليم. وسيُفاجأ الطويل بعدها بأنه ممنوع من السفر، ويخبره وزير الداخلية بأنه ليس صاحب المنع، ثم يخبره وزير صديق آخر بأن صاحبه "أي عبدالحليم" هو وراء المنع ليُضطر إلى الذهاب إليه والقبول بتلحين الأغنية. ربما هي آثار الناصرية في العندليب الذي جلب الأبنودي بطريقة المخابرات، ثم ضغط على صديق عمره بهذه الطريقة!

سيخرج عبدالحليم والأبنودي من الهزيمة بأغنية "عدّى النهار"، من ألحان بليغ، والتي ستنتشر في مصر وخارجها بشكل كاسح، وسيُنظر إليها كأغنية عفوية أُلَّفت تحت ضغط الهزيمة، بينما هي مكتوبة ومنشورة قبل خمس سنوات من الهزيمة، واحتاج تمرير جملة منها "بلدنا على الترعة بتغسل شعرها.. جانا نهار مقدرش يدفع مهرها" إلى وساطة من شخص أخذ على عاتقه ألا يغضب عبدالناصر منها، إذ قد يُفهم أنه يمثّل ذلك النهار الذي لم يستطع دفع المهر. ولم يكن فتى الناصرية بعيداً من تلك الحسابات، فهو سيرفض من تلقاء نفسه أداء أغنية "الباقي هو الشعب" خشية أن تُعتبر انتقاصاً من الجيش، لتؤدي عفاف راضي الأغنية من ألحان كمال الطويل.


ما رأي الشيخ عبدالحميد الكشك؟
الآنسة أميمة، الحاصلة على دبلوم التجارة، البالغة من العمر 21 سنة، تذهب لتؤدي واجب العزاء في المطرب الذي مات في الأمس. وبعد أداء واجب العزاء، صعدت سيادتها إلى الدور السابع، وألقت بنفسها ونزلت قتيلة حزناً على وفاة المطرب. ومن المعلوم شرعاً أن اثنين لا تُصلّى عليهما صلاة الجنازة؛ الشهيد والمنتحر. الشهيد لا يُصلى عليه لأنه حيّ وصلاة الجنازة لا تكون إلا على الأموات، أما أمثال الآنسة أميمة التي ماتت شهيدة العندليب وشهيدة الطرب، فلا يُصلى عليهم لأنهم منتحرون وهؤلاء مخلّدون في النار والعياذ بالله.

بعد هذه المقدمة يصبّ الشيخ الكشك غضبه على الإعلام الذي جعل من عبدالحليم معبوداً ومن عبدالناصر أسطورة لدى الشباب، ولنعرف منه حادثة أخرى هي دخول أستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ليجد الطالبات في المدرج يبكين عبدالحليم، ولما قال: من أرادت البكاء فلتخرج، فخرجت البنات كلهن. بعدها مباشرة، وبمكر معتاد، يسرد الشيخ حادثة ثري عربي رأى سائقاً في شقته في القاهرة، 17 فتاة، "ملمِّحاً إلى الدعارة"، ليذهب إلى حادثة وفاة طفل في عملية يدعوها "الشذوذ الجنسي" والأصح أنه اغتصاب، إلا أن دواعي التهويل تدفع الشيخ إلى التلويح بكل ما يراه من الموبقات دفعة واحدة.


بصرف النظر عما في ذلك من الاستثمار الإسلامي، أو الإسلاموي الشعبوي، تقدّم لنا أحاديث الشيخ الكشك مادة جيدة عن تلك الفترة. هو مثلاً يقدّم معلومات عن أميمة عبدالوهاب "سنها، دراستها، كيفية انتحارها"، قد لا نجدها في كثير من المنابر التي تذكر حادثة الانتحار. ولا تفوته أيضاً جنازة فريد الأطرش، ووصيته بأن يدفن عُودُه معه، ليشن هجوماً آخر على أهل الفن وابتذالهم، وبطرهم مقارنة مع الفقراء. ولا ينقصه حس السخرية وهو يتكلم عن حادثة كلب أم كلثوم الذي عضّ رجلاً، الحادثة المشهورة بـ"كلب الست" والتي اشتُهر أحمد فؤاد نجم بقصيدته الساخرة عنها.

في أرشيف الشيخ مادة ثرية عن أخبار أهل الفن، أم كلثوم وعبدالوهاب وسعاد حسني، وصولاً إلى أحمد عدوية. مادة نستطيع استخلاصها من سياقه الهجومي، لتكون أرشيفاً فنياً لا يمكن رصده إلا من قبل متابع جيد. ربما تجيز لنا مبالغات الشيخ أن نصفه بالمكافئ الإسلاموي لعبدالحليم حافظ، من حيث المبالغة في الأداء بهدف استعطاف المتلقي واستدرار عواطفه. أغلب الظن أن الشيخ لم يتابع كل تلك الأخبار الفنية بدافع التربص المُعادي لأصحابها، وأنه كان محباً للفن على طريقته، الطريقة التي تُترجم بهجوم شرس حميم!


ستنتحر.. ستنتحر!
تبقى القصة المبسّطة المتداولة عن ذلك الطفل الذي فقد أبويه قبل أن يكمل سنته الأولى، ثم تعلم في مدرسة للأيتام قبل الالتحاق بمعهد الموسيقى، حاملاً معه من ترعة القرية، مرضَ البلهارسيا الذي سيتسبب في وفاته المبكرة. تبقى هذه القصة الأقرب إلى الوجدان، والأدعى إلى التعاطف مع النجم الراحل. في جانب مهم منها، كانت تجربة عبدالحليم بمثابة امتداح للضعف، امتداح لضعف الرجل، إذ لم يسبق لمغنٍّ أن أظهر هذا القدر من "الرقة" العاطفية، وبأدوات تُعتبر ضعيفة أيضاً، فصوت عبدالحليم لا يُعدّ من الأصوات القوية، وكذلك حال قدرته على أداء بعض فنون الغناء التقليدي، بخلاف أم كلثوم التي اشتُهرت بلون عاطفي مشابه، لكنْ بتوازن يقيمه من بين جملة اعتبارات، صوتُها القوي، وأداؤها الطربي الذي كثيراً ما جعل العاطفي يتوارى خلفه قيمةً وتأثيراً.

امتلك عبدالحليم من الذكاء ما يجعل من فكرة الضعف، قوةً، وسلطة الفكرة حجبت السلطات الأخرى التي امتلكها واستمتع بها. هي مثلاً سلطة النجم التي تمكّنه من الاستحواذ على أغنية كان بليغ قد لحّنها لوردة، "أي دمعة حزن لا"، السلطة نفسها التي تجعله "بسبب شيوع أخبار الود المفقود بينهما"، يذهب إلى حفلة لوردة ويصعد إلى المسرح ليطوق عنقها بإكليل من الزهر، ثم يغادر عارفاً أن الجمهور سيترك المسرح ويلحق به. ستُتهم وردة في المقابل بأنها أرسلت مندسين يشوشون عليه أول حفلة لـ"قارئة الفنجان"، قبل أن تشير أصابع الاتهام إلى صفوت الشريف الذي كان ناقماً عليه منذ تدخله لدى عبدالناصر كي يكفّ رجل المخابرات القذر أذاه عن سعاد حسني.


قصة سعاد حسني تكشف أيضاً جانباً من شخصية عبدالحليم. هو ليس ذلك العاشق النموذجي الذي يظهر في الأفلام، العاشق المظلوم أحياناً لكنه لا يسيء على الإطلاق. حسبما يروي سمير صبري "جار عبدالحليم في العمارة"، ويوافقه عليه مفيد فوزي الإعلامي الحاضر في تلك الأجواء والسهرات، كان عبدالحليم غيوراً جداً. بمعايير زمننا، كان من النوع الذي قد يتلصص على سجل مكالمات حبيبته، أو على لائحة أصدقائها أو متابعيها في وسائل التواصل الاجتماعي. أما في ذلك الزمن فقد أتته نوبات غيرة في بعض السهرات، وخرج برفقة أصحابه إلى عناوين محددة، وطلب من سائقه سؤال بوابي العمارات عن الضيوف لدى أحد أصحاب الشقق الذي يشكّ في أن تكون سعاد ساهرة تلعب الورق لديه. كان محتماً أن ينتهي ذلك الغرام بسبب الغيرة، وبتلك النهاية لن تشاركه سعاد فيلم "الخطايا" وسيذهب الدور إلى ناديا لطفي.

كان من الإنصاف لو عرفت أميمة عبدالوهاب ما نعرفه عن عبدالحليم، ولا بأس لو عرفت أسوأ خصاله. لو استمعت مثلاً إلى الأبنودي الذي لا يُشكّ في حبه لعبدالحليم، وهو يقول ضاحكاً أن عبدالحليم كان يرتكب نذالات كثيرة، لكنه لم يكرهه بسببها يوماً، ويذكر منها طلب بليغ حمدي عشرة جنيهات من عبدالحليم بسبب دخول أمه إلى المستشفى، فيعتذر عن إقراضه المبلغ ويطلب منه الانتظار حتى اليوم التالي ليأخذه من مجدي العمروسي، أي من حساب العمل.


لو أنها لم تنتحر واستمعت إلى الأبنودي يروي قصة أغنية "أحضان الحبايب"، وكيف كان ينتقد أغاني الأفلام "أغاني نهاياتها خاصةً"، فتحداه عبدالحليم أن يكتب بمستواها، وذهب الأبنودي إلى غرفة ولم يستغرق وقتاً طويلاً ليعود إلى الصالون ويقرأ: مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك.. لا عرفوا إيه ودّاك ولا عرفوا إيه جابك.. رميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن.. حتى في أحضان الحبايب شوك يا حنفي. وضحك الحاضرون من "حنفي"، باستثناء عبدالحليم الذي أُعجب بالكلمات، وحلّ "قلبي" مكان حنفي في القراءة الثانية.

كانت أميمة تستحق أن تعرف كواليس "أحضان الحبايب"، وألا تدمع عيناها وهي ترى عبدالحليم يبالغ في التفجع وهو يؤديها في فيلم "أبي فوق الشجرة". ربما كانت ستضحك وهي تتذكر اسم حنفي، ربما ستهزّ رأسها وتقول لنفسها: هذا هو الفن، قد يولد فيه الحزن من لحظة تحدٍّ وسخرية، فمعياره ليس الصدق. كانت تستحق أن تعرف شيئاً ما عن الفجوة بين الفن وأهله، وعلاقة أهله بالسلطة وعن علاقات السلطة وتراتبيتها في الوسط الفني نفسه. تستحق أن تعرف لا لتكره محبوبها، بل لتحبه من دون أن ترى فيه نور حياتها وتنتحر بسبب وفاته. ربما، في إبراز الوجه الآخر، كنا نتخيل حضورها ونحاول ثنيها عن الانتحار، إلا أنها محاولة لا تخلو من المخاطرة، إذ لا يُستبعد أن تصيبها المعرفة بصدمة شديدة، وأنها لقسوة ما عرفته للتو ستنتحر.. ستنتحر. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024