إلى الأوسكار.. "الرجل الذي باع ظهره" وفاوست السوري

محمد صبحي

الجمعة 2021/02/12
منذ عرضه العربي الأول، أواخر العام الماضي في مهرجان الجونة السينمائي، بدا واضحاً أن فيلم "الرجل الذي باع ظهره" يستكمل مسار مخرجته التونسي كوثر بن هنية، صناعةً وإنتاجاً واستقبالاً. فالحفاوة التي قوبل بها لم تكن غريبة على السينمائية التونسية التي تعرف كيف تختار التيمة أو الفكرة التي تأخذ طريقها إلى الرواج والانتشار وإثارة الجدل و"الترند". تتميز المخرجة بأنها ذات توجه خاص في أفلامها حققت نجاحاً على أكثر من صعيد، وهي تنقلت بين الوثائقي والروائي، وعرض فيلمها الوثائقي الطويل "الأئمة تذهب إلى المدرسة" في مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية، كما فاز فيلمها الثاني "زينب تكره الثلج" بجائزة التانيت الذهبي من مهرجان قرطاج خلال دورته الـ27. وعرض فيلمها الروائي الطويل الأول "على كف عفريت" في مهرجان "كان" 2017...

وبعد تناولها، في الأعمال الثلاثة الماضية، العلاقات بين النساء والرجال، تروي كوثر بن هنية في فيلمها "الرجل الذي باع ظهره" قصة سام، وهو شابٌ سوري حساس ومندفع في علاقته بعبير التي تزوجت غيره. تستلهم حدثاً "حقيقياً" مع سيناريو يتضمن باسقاطات اجتماعية وسياسية ذاتية المرجع، وصوَّرته بطاقم "متنوع" الخلفيات والمشارب أمام الكاميرا وخلفها. هو استلهام لفكرة من الجسد المتشَيِّء الفاقد للروح، الجسد الموشوم في معرض فني. تقول المخرجة في حديث صحافي: "هي فكرة غريبة ومثيرة تنطوي على قدر من الكوميديا السوداء، فليس هناك أكثر من أن يبيع الإنسان جِلده، فكانت هي نقطة البداية لفيلمي وغلّفتها بشكل أساسي بأزمة اللاجئين السوريين الذين التقيت بأعداد كبيرة منهم، وكان التحدي بالنسبة إلي هو الربط بين عالمين مختلفين، عالم الفن المعاصر بكل ترفه، وعالم اللاجئين بكل فقره ومعاناته". 

 

يروي الفيلم حكاية تفطر القلب، وتلامس أوتاراً حسَّاسة عند كل ذي ضمير، إذ تنتظم معاناة اللاجئين السوريين وصراعهم، مع الحدود وتصاريح الإقامة خلال رحلة الخروج واللجوء القاسية، وما يتخلّلها من استغلال وإساءة وابتعاد عن مبادئ حقوق الإنسان. قصة الفيلم كتبتها كوثر بن هنية، مستلهمة إياها من الفنان البلجيكي فيم ديلفوي (1965) وعمله الموشوم على ظهر السويسري تيم شتاينر، باتفاق غريب بين الإثنين يقضي بأن يجول شتاينر في صالات العرض حول العالم ليعرض نفسه كـ"عمل فني حيّ"، في مقابل حصوله على نسبة من الإيرادات. الأغرب، أن هذا "العمل" اقتناه جامع أعمال فنية ألماني، مع الالتزام بسلخ جلد شتاينر حين موته، ليعلّق المالك "عمله الفني" على جدار منزله.

وقد حضرت المخرجة معرضاً فنياً في متحف اللوفر، لأعمال ديلفوي، فرأت شابّاً بظهرٍ عارٍ موشوم بصورة العذراء مريم يعلوها هيكل عظمي، يجلس في إحدى غرف المتحف، وصُدمتْ حين علمت أن وشم ظهره جزءٌ من المعرض. ثم كتبت سيناريو الفيلم في مسودته الأولى خلال خمسة أيام، وغيَّرت جنسيتَي الفنان و"عمله"، ورفدت القصة الأصلية بقصة حبّ يائسة وتعليقٍ حادٍ على عالم الفنّ المعاصر وسوقه.

أدوار الفيلم الرئيسة، يؤديها الممثل الكندي من أصل سوري، يحيى مهايني، إلى جانب الممثلين الفرنسيين ليا ديان، وكريستيان فاديم، والبلجيكي كوين دي بو، والإيطالية مونيكا بيلوتشي، واللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيين نجوى زهير وبلال سليم، والتصوير للبناني كريستوفر عون (وهو نفسه مدير تصوير "كفرناحوم"). وعُرض الفيلم للمرة الأولى ضمن قسم "آفاق" في مهرجان فينيسيا السينمائي، حيث حصد مهايني جائزة أفضل ممثل، ثم عُرض في مهرجان الجونة المصري وحصد هناك جائزة أفضل فيلم روائي عربي، وأخيراً اختارته أكاديمية هوليوود ضمن لائحة مختصرة من 15 فيلماً للمنافسة على "جائزة أوسكار أفضل فيلم عالمي". دورة حياة مألوفة ومتوقعة. وكتبت المخرجة في صفحتها في فايسبوك، بالإنكليزية: "نعم فعلناها.. وصلنا للقائمة المختصرة للأوسكار 2021. شكراً لكل من أحب (الرجل الذي باع ظهره)".

في التنفيذ السينمائي، تعيد بن هنية صياغة أسطورة فاوست الذي باع نفسه للشيطان، في إطارٍ معاصر، يسمح فيه لاجئ سوري لفنان أميركي باستخدام ظهره كلوحة مرسوم عليها وشمٌ يمثل "تأشيرة شنغن" ضخمة ومُفصَّلة، في محاولة منه لتصحيح عواقب مجيئه إلى العالم في الجانب الخاطئ منه. سوري حكمت عليه الحرب بدخول السجن وملاحقته أمنياً، ففرَّ إلى لبنان طلباً للأمان والحرية، ولم يجدهما، بل عانى مرارة العيش وشقاء الحياة، ثم جاءته الضربة الكبرى بزواج حبيبته وسفرها إلى بلجيكا مع زوجها الدبلوماسي السوري، ليقرر الذهاب إلى هناك بأي ثمن لاستعادة حبيبته. هناك، في أوروبا التي وصلها بقبوله الصفقة إياها، يُعرض في المتاحف مثل لوحة، مع الإضاءة المناسبة، يعطي ظهره لجمهورٍ لا يراه وبدوره لا يريد الجمهور رؤيته.

كعادة السينما التونسية، يتطرق الفيلم إلى قضية موضع جدل كبير في السنوات الأخيرة، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً: أزمة اللاجئين، ومن ورائها تعامل الدول الغربية مع مبادئ وأسس حقوق الإنسان، ممزوجة بنقد اجتماعي لتسليع البشر وأخلاقيات الفنّ المعاصر، بطريقة مشابهة لما فعله سابقاً فيلم "المربع" (2017، روبن أوستلند)، و"حيوانات ليلية" (2016، توم فورد)...

الإخراج في فيلم هنية، في جانب منه مدروسٌ ومميَّز، خصوصاً في بعض الخيارات الأسلوبية الهادفة إلى التأكيد على جماليات الفيلم، وإن بدا بعض المَشاهد كما لو كان وافداً من مسلسل تلفزيوني لربّات البيوت. الجيد هنا هو تطوّر الرؤية البصرية وديناميكيتها اللافتة في بعض المشاهد، وأداء الممثلين، الذين يعملون كقوة دافعة للفيلم بأدائهم الجذَّاب والمحسوب والمُقنِع، باستثناء مونيكا بيلوتشي التي يمثّل اختيارها (ودورها نفسه) علامة استفهام كبيرة، وإن كانت مفهومة قيمتها التسويقية.

ويتنافس الفيلم التونسي في اللائحة القصيرة للأوسكار، مع أشرطة من إيران، فرنسا، رومانيا، النروج، تايوان، هونغ كونغ، روسيا، ساحل العاج، تشيلي، المكسيك، غواتيمالا، تشيكيا والبوسنة. ومن المتوقع أن يقام احتفال توزيع جوائز الأوسكار الـ93 في 25 نيسان/أبريل المقبل، في هوليوود، على أن يُبثّ عالمياً عبر شبكة ABC التلفزيونية الأميركية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024