كاملة شمسي.. أنتيغون المسلم في بريطانيا

محمد صبحي

الأحد 2019/07/28
قبل حوالي ألفي وخمسمائة عام، كتبَ سوفوكليس مسرحية "أنتيغون"، وهي تراجيديا إغريقية متكاملة تملك الكثير من القوة والملاءمة لتطويع عناصرها وإيفادها في أعمال أدبية تلت زمن ظهورها بقرون كثيرة. يتضح هذا في العديد من الاقتباسات والتفسيرات التي لحقت بها في القرن الماضي، من قبل جان أنويه وبريخت، بالطبع، ومؤخراً مع الفلمنكي ستيفان هيرتمانز في مسرحية "أنتيغون في مولينبيك". في روايتها "نار الدار"*، تعود كاملة شمسي** إلى مأساة المآسي في معضلة تعارض الولاءات لتثير أسئلة ملحّة حول أولويات إنسانية وسياسية: أيهما أقوى سلطة، الحب أم الدولة، القوانين الرسمية أم العدالة، الضمير أم الطموح الشخصي؟

في مسرحية سوفوكليس، كانت أنتيغون إبنة الملك أوديبوس، الذي تخلّى عن عرش طيبة إلى ولديه، إتيوكليس وبولينيسيس، شريطة أن يتشاركا الحكم بينهما. لكن الشقيقين نسيا وعدهما، وأعلن بولينيسيس الحرب على شقيقه، ليستأثر بالمُلك. خسر الإثنان حياتهما في معركتهما الشرسة، وانتقل الحكم إلى عمّهما، كريون، الذي قرر حصول إتيوكليس على جنازة رسمية بينما منع دفن بولينيسيس، عقاباً على خيانته أخيه، وأمر بتركه خارج المدينة لتنهشه النسور الجائعة. رأت أنتيغون في ذلك غياباً للعدل، خلافاً لشقيقتها التي أذعنت للقرار، وأخذت على عاتقها دفن شقيقها المغضوب عليه بنفسها. فكان عليها أن تدفع حياتها جزاءً لعصيانها، كما قرر الملك. لكن بسبب من علاقة الحب التي تجمع أنتيغون بهايمون، خطيب أنتيغون وابن كريون في الوقت نفسه، يطلب الولد من أبيه العفو عنها، فيرفض، ويتجادلا بغضب. ثم يأتي عرّاف لينذر كريون بجزاء عصيانه قوانين الآلهة الرحيمة. يرقّ قلب كريون، فيعفو عن أنتيغون، لكنها تسبقه بانتحارها. يحاول هايمون، يأساً، قتل أبيه، فيخطئه ويقتل نفسه، ساقطاً إلى جوار حبيبته أنتيغون.


لا تنقل كاميلا شمسي هذه القصة إلى زمننا فحسب، بل إنها تمنحها أيضاً لمسة خاصة بها، دون أن تخون أصولها. تبدأ روايتها بافتتاحية مقبضة نتابع فيها عصمت، البريطانية المسلمة ذات الأصول الباكستانية، التي اضطرتها ظروفها العائلية لمقاطعة دراستها علم الاجتماع من أجل رعاية شقيقيها التوأم، أنيقة وبرويز، حين كانا في الثانية عشرة من عمرهما. كان الأب الغائب الأكبر في الأسرة الصغيرة، وحين ماتت الأم لم يبق سوى الأخت الكبرى لتربية التوأمين. والآن بعد أن بلغا التاسعة عشرة، تجد عصمت الوقت للحصول على منحة دراسية لإكمال رسالة الدكتوراة في جامعة أمهرست في أميركا. لذلك، تنتقل من لندن إلى نيويورك، حيث تعمل مدّرستها السابقة في مدرسة لندن للاقتصاد والتي ستقيم معها عند وصولها إلى أن تجد لنفسها مكاناً. لكن وقبل أن تبارح المطار، تجد نفسها في غرفة استجواب، قرابة الساعتين، تبلغ سائلها بآرائها في الشيعة، والمثليين، والملكة، والديمقراطية، ومسابقة الخبّازين البريطانيين الكبرى"، وغزو العراق، وإسرائيل، ومنفذّي التفجيرات الانتحارية، ومواقع المواعدة على الإنترنت.

أختها، أنيقة، عنيدة وجامحة ما من كائن يستطيع تحديد قواعد حياتها. تعرف دائماً كيف تجد أشخاصاً يحرصون عليها. لديها تلك الجاذبية المؤكدة فورياً في طباعها المتناقضة: سليطة اللسان، لكنها تراعي مشاعر الآخرين؛ جدّية الذهن مع القدرة على ارتكاب حماقات لا حدود لها، منفتحة على امتصاص ألم الآخرين بقدر ما هي غير قادرة على الاعتراف بضرر أن يكون المرء مهجوراً وأن يكون يتيماً. في حين كان برويز وعصمت يفضلان البقاء على هوامش المجموعات كلها، بسلوك أهدأ ورغبات لا تثير انتباهاً زائداً أو اهتماماً متطلِّباً. برويز هو مثال آخر للفرد الوحيد الباحث عن مكانه في العالم مدفوعاً بسطوة تاريخ شخصي ثقيل وشخصيات محيطة ذات كاريزما آسرة. شاب أخرق في التاسعة عشرة من عمره، طائش وإنفعالي، ذهب  الى أرض الخلافة بحثاً عن رائحة أبيه الذي لم يعرفه إلا في الصوّر. يدرك متأخراّ حقيقة انبهاره بالأب الغائب عن أسرته للجهاد في آخر العالم. وحين يريد، بعد فوات الأوان، الإفلات من مجاري التاريخ التي تصمه بالإرهابي ابن الإرهابي، لا يعرف كيف يحرّر نفسه من العفاريت التي جعلها بنفسه تتبعه في كل خطوة يخطوها.

تتعثر مصائر الأشقاء الثلاثة بطريق إيمون عندما، بالمصادفة، قابلته عصمت في أميركا، ثم عاد إلى لندن وبحث عن بيتها حاملاً هدية من شوكولاتةM&M'S لجارتها التي أضحت بمثابة أماً ثانية بعد وفاة أمهم. التاريخ الجهادي لوالدهم، عادل باشا، لم يكن عائقاً كبيراً أمام طوفان الحب الغامر والسريع الذي نشأ بين أنيقة وإيمون. لكن برويز، ومقصد رحلته، هو ما سيمتّن تلك العلاقة ويجعلها أبدية. أحبَّتْ أنيقة إيمون الذي "كان شكله يشبه فرصة، وكان مذاقه يشبه أملاً، وكان الإحساس به يشبه حبّاً". كان إيمون أملاً، وكان العالم مظلماً جداً أمام الأخت الساعية لإعادة شقيقها الحبيب إلى الوطن من جديد، وكان إيمون مضيئاً هناك في الظلام. "هل يستطيع أحد ألا يحب الأمل؟".


لكن كارامات لون، والد إيمون، يملك سلطة ونفوذاً وعقلية تدفعه لإعادة الغباء ذاته وإكمال حلقات المأساة. ابن طموح من الجيل الأول لأسرة من المهاجرين الباكستانيين، تزوَّجَ امرأة ذات مال ووجاهة اجتماعية، جنى أول ملايينه في عالم الأعمال ثم التفت إلى تثبيت إسمه سياسياً، فحوّل نفسه إلى متبرِّع صاحب نفوذ في حزب المحافظين مما أتاح له الفوز في أول انتخابات برلمانية يخوضها في حيّه القديم. حينها، استخدم هويته القديمة، باعتباره مسلماً، حتى يفوز؛ ثم رماها عنه، عندما بدأت تلحق به الضرر. ذئب متوحِّد أغلب الأحيان، وكلب ضال، أحياناً أخرى. وصوله إلى منصب وزير الداخلية البريطاني، يتكفّل بإطلاق العنان لنفسه لقطع كل صلاته بماضيه الإسلامي ووصم المسلمين بالتخلّف: إذا أردت أن تكون بريطانياً بحق، فيجب عليك ألا تميّز نفسك عن البقية بارتداء ملابس غير نمطية مثل الحجاب أو شيء من هذا القبيل.

سنسقِط الجنسية البريطانية عن كل من يغادر بريطانيا للانضمام إلى أعدائنا. الإمعان في إثبات أنه بريطاني أكثر من الملكة نفسها، سيحوِّل أنظار خصومه الإسلاميين إلى إبنه، انتقاماً من ذلك الملحد المتجرئ على الدين. نهاية دموية كان يمكن تفاديها، بقليل من حصافة وحسن تقدير، غابت عن بال السياسي البريطاني الذي يعميه تفكيره التطهّري، مثلما غابت عن وسائل إعلام يمينية ومنافسين حزبيين وديبلوماسيين قليلي الكفاءة، جعلوا أنفسهم وقود معركة أكبر من مجموع أطرافها، باستطاعة نارها مدّ خيطها المدمّر من لندن إلى كراتشي.

تصنع شمسي شبكة من العلاقات المعقدّة والمربكة بين شخصياتها تتناسب مع أجواء رواية تبحث في تصادم الأفكار المختلفة حول الأمة والهوية بشكل غير قابل للتوفيق. برويز هو توأم روح أنيقة والشخص الذي تحدّثه عن كل مخاوفها وأحزانها، لكنها تأتي إلى عصمت بحثاً عن معانقة أو عندما تكون في حاجة إلى يدٍ تحكّ ظهرها أو جسد تتكوَّر على الأريكة إلى جانبه. وأنيقة هي الفتاة المحجبة التي تمارس الحبّ بعنّف مع صديقها الجديد، ثم تأخذ حماماً منعشاً، لتسجد لله في الغرفة التي ركعت فيها على ركبتيها لغاية مختلفة تماماً قبل ساعات فقط.

وعصمت، امرأة صغيرة عذراء رغم اقترابها من الثلاثين، تحاول إبقاء رأسها ورأس أسرتها فوق الماء وتجاوز تاريخ أبيها الجهادي السابق، لكنها تفشل في إبعاد شقيقها الأصغر عن مصير والده، فتبلغ السلطات بسفره إلى سوريا، كمواطنة صالحة في بريطانيا ملتهبة ومتأججة بمحاربة الإرهاب. أما إيمون فهو ثمرة زواج رجل طموح من أصول شرقية بسيدة أعمال غربية ناجحة من ذوي الهويّات المتلاقحة، أخذ من والدته رقتها وإنسانيتها بينما تخلّى والده عن كل ما يمكن أن يربطهما معاً.

تضع شمسي "أنتيغون" سوفوكليس في بيئة تلعب فيها الهوية دوراً رئيساً. ليس فقط الهوية الثقافية أو الدينية، ولكن أيضاً الهوية الوطنية. إذ يخضع برويز لتأثير جهادي بريطاني عائد من سوريا، يتوسّم فيه إيصاله إلى أشخاص قاتلوا مع والده في جهاده المقدس في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان، قبل أن يموت في الطريق إلى غوانتانامو. بخضوعه، وسفره، يفقد برويز هويته البريطانية، ويُمنع من أن يُدفن في التربة البريطانية، بحسب قرار وزير الداخلية، الذي هو والد إيمون. لا تخون شمسي أبداً أياً من شخصياتها، ولا حتى تلك الشخصية الانتهازية التي لا تُحتمل. تُلبس أنتيغون حجاباً، لتسأل العالم الغربي المستنير: هل هناك مُثُل عادلة إذا كانت لا تنطبق على الجميع؟ ما الأساس الأخلاقي لنظام يصدر قوانين غير إنسانية بغض النظر عن تصرفات خصومه؟


بحسب أحاديث صحافية أدلت بها شمسي وقت إعلان اختيار روايتها ضمن القائمة لطويلة لجائزة البوكر 2017، ولدِت فكرة "نار الدار" كمسرحية في البداية، بطلب من منتج لندني أراد استعادة أمثولة أنتيغون في نصّ مسرحي معاصر، يتناول صراعات الهوية لدى مسلمي أوروبا في عالم اليوم. ربما يفسّر ذلك الشكل الذي انتظم عليه تقسيم الرواية إلى خمسة فصول يحمل عنوان كل منها اسم إحدى شخصياتها الخمس الرئيسة، وأيضاً، الجرعة الزائدة من خطابية ومسرحية الخطوط الحوارية في أكثر من موضع بطول الرواية. أغلب الظن أن مسلسلاً تلفزيونياً مقتبساً عن الرواية سيحظى بجرعته الوافرة من الدرامية والجماهيرية، وربما الجوائز أيضاً. لأنه في عدد غير قليل من المواضع، تميل الرواية لتجاوز الحبكة بثغرات غير مقنعة، لحساب زيادة حدة التوتر في المشاهد الدرامية، كما يليق بفيلمٍ هندي يتغير مزاجه في  المشهد الواحد بأداءات تمثيلية رخيصة ومونتاج فقير. مثلاً، عندما تجلس أنيقة وإيمون وتخبره بأن شقيقها موجود في سوريا. ثارت ثائرة إيمون، وطوّح بقدمه أشجار الشرفة، واختبر شعوراً جديداً لأول مرة في حياته، ثم طلب منها مغادرة شقته، ثم نزل إلى الجيران حاملاً مكنسة وسلة قمامة لإزالة آثار الحطام في الحديقة المشتركة. ثم بعد أربع صفحات تقريباً، كانت أنيقة لا تزال في الشقة لم تغادرها، فجالسها وطلب منها بحبّ إخباره المزيد عن شقيقها، كأنه لم يكن هو نفسه السبب الذي جعله يتصرف كمجنون هائج قبل دقائق قليلة.


الرواية، أيضاً، في بعض أماكنها، تبدو مكتوبة بالقلم والمسطرة، بمقاسات تصبح مزعجة أحياناً. كل شخصية لها تاريخ معين وخلفية مهندسة، يلتقيان، في توظيفهما مع إشارات وتلميحات وشخصيات ومشاهد ثانوية، لإبراز مفارقات وبث ومضات ذهنية لدى القارئ، من حين لآخر. المشكلة أن تلك الطريقة تعمل مثلما تعمل إشعارات الهاتف الذكي لإعلام صاحبه بما يستجد بما طلب سابقاً إعلامه به. مثلاً، آية الكرسي التي يتكرّر ذكرها أربع مرّات في الرواية، مع شخص مختلف وسياق مُشابه في كل مرة، للتدليل على المشترك الإنساني/ الإسلامي بين شخصيات مسلمة (أو من خلفيات مسلمة) تفهم الدين وتفسّره بطرق متفاوتة. لكن أهميتها الأساسية تبقى في كونها رواية راهنة تصف حالة أوروبية معاصرة وتمدّ القارئ الغربي بما يحفزّه على التفكير والقلق، حيث يجد المسلمون الأوروبيون أنفسهم ضحية لعبة مصالح وأسرى معضلة ولاءات يفرزها تفاعل - غير مشروط ولا يخضع إلى أي نوع من الضبط - لسياسات عابرة للحدود وتصرفات "مواطنين عالميين" في بلاد بعيدة تخلّى عنها أهلهم وتركوها خلفهم بعدما استقر لديهم عجزها عن السماح لهم بأن يعيشوا حياتهم بكرامة. وهي صادقة وضرورية، إذ تأتي لمؤلفة مسلمة نشأت كباكستانية تكتب بالإنكليزية في كراتشي، لأسرة مثقفة ذات علاقة طويلة بالثقافة الغربية، وتحصّلت على تجربة العيش بين باكستان (بلد المولد) وأميركا (بلد الدراسة) وبريطانيا (بلد العمل والخبرة)، وتقسّم وقتها بين كراتشي ولندن منذ عام 2007.


في الأخير، تظلّ كاملة شمسي روائية مميزة وإحدى روّاد مدرسة الكتابة السهلة الممتعة، يتدفق نثرها فوق الورق مثل ماء منحدر فوق جبل أملس. لا استعارات متحذلقة أو بعيدة المنال، مع روح بريطانية خالصة تغلّف النصّ المكتوب. بالإضافة إلى ذلك، شيّدت شمسي روايتها بطريقة مبتكرة ومحفّزة. في بعض الأحيان تحصل على صورة أفضل للشيء عبر مقاربته من جانبه. الأرق، مثلاً. فالمرء المؤرَّق لا ينام نتيجة تقلّبه بصوت عال طوال الليل على السرير مفكراً بأن عليه النوم، لأنه بخلاف ذلك سيكون اليوم التالي فوضى مزعجة. لا، أنت تفعل ذلك بتركيز أفكارك على شيء آخر غير النوم. وبالمثل، تفعل شمسي في روايتها، إذ إنه على الرغم من ظهور عصمت كثيراً في بدايتها وتوظيفها كنقطة إنطلاق لحبكتها، إلا أن شقيقتها الصغرى أنيقة هي التي ستتكفّل بدفع وتسيير الرواية إلى مآلها التراجيدي الأخير بمجرد ظهورها. هذه لعبة قديمة ومثيرة، ولا تزال صالحة للاستخدام. وكقارئ، يتيح لك ذلك إدراك القضية الحقيقية وراء ما هو مكتوب: العدالة الغائبة. 


(*) "نار الدار" - كاملة شمسي، ترجمها إلى العربية الحارث النبهان. دار التنوير، 303 صفحة.

(**) كاملة شمسي (1973 – كراتشي، باكستان) كاتبة بريطانية من أصل باكستاني درست الكتابة الإبداعية في هاميلتون كوليدج بأميركا، وحصلت على ماجستير في الفنون الجميلة من جامعة ماساشوستس أمهرست. ظهرت أولى رواياتها عام 1988 بعنوان "في مدينة على البحر"، وحصدت بها بضعة ترشيحات وجوائز. "نار الدار" هي روايتها السادسة، وفازت عنها بجائزة الكتابة النسائية في بريطانيا لعام 2018، بالإضافة لظهورها في العديد من القوائم الطويلة والقصيرة للجوائز الأدبية. لها رواية أخرى مترجمة إلى العربية بعنوان "ظلال محترقة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024