قال النروجي: تزوجتُها لأنها لا تقول "لا"!

منال الشيخ

الأحد 2015/03/08
عندما تكون قريباً من الحدث ستلمس حقائق وتفاصيل لا يدركها مَن يتابع مِن بُعد. داعش، "تنظيم الدولة"، كما عرّف عن نفسهِ، ليس وليد اليوم كما نعلم، وهو امتداد لتلك الحركات الإسلامية المسلحة التي أطلقت على نفسها "الجماعات الجهادية". على اختلاف تسمية هذه الجماعات، كان المبدأ واحداً دائماً؛ هو فرض السيطرة وانتزاع السلطة بقوة السلاح ولا تفاهم من دونهُ. ما تطور مؤخراً مع داعش، هو الأسلوب والطرائق في فرض هذه السيطرة والتفنن في بث الرعب والترهيب في قلب المتلقي ليكون الوقع أشد مما كان عليه حتى وصل الأمر بالبعض أن يترحم على إرهاب القاعدة!

بحكم نشأتي في مدينة لم تخلُ من الالتزام الديني، الذي تطور بعد الاحتلال إلى تشدد مسلح، فقد كنتُ قريبة جداً من بعض المجموعات المسلحة. مدينة نينوى كانت آخر مدينة دخلتها القوات الأميركية من الجنوب، بسبب رفض السلطات التركية استخدام أراضيها قاعدة لطيران الجيش الأميركي. كان يوماً غريباً بالنسبة إلي، وأنا أحاول العبور من الجانب الأيمن لمدينة الموصل إلى الجانب الأيسر، لزيارة بيت أهلي والاطمئنان عليهم بعد انقطاع دام عدد أيام معارك الاجتياح العام 2003. كانت مصادفة أن يتزامن خروجي من البيت إلى الشارع مع دخول أول رتل عسكري للمدينة ليستقر فيها في ما بعد. كنتُ أشاهد هذه الآليات الضخمة من دبابات ومدرعات تمر أمامي، وكان علينا التوقف بسيارتنا حتى تمر وإلا سيطلقون النار على كل مركبة لا تحفظ المسافة بينها وبينهم. استسلمت المدينة، حالها حال بقية المُدن، من دون مقاومة، بعد انهيار الجيش والاختفاء مفاجئ للأجهزة الأمنية، إذ لم يبق شرطي أو جندي مسلح في الشوارع.

خيم الهدوء والصمت على المدينة في غياب السلطة العراقية، حتى منتصف العام 2004 تقريباً، تحديداً بعد معركة الفلوجة الأولى، الشرسة، والتي أسقطت الكثير من الطرفين. بعد هذه المعركة وجدت هذه المجموعات النازحة من الفلوجة، وغيرها في نينوى الهادئة الحدودية مع سوريا، ملاذاً لها. وكانت مصادفة أخرى أن أكون في طريق خارجي لاستعادة أوراقي الوظيفية من مؤسسة حكومية، عندما شاهدت من بُعد، تحليق الطيران الأميركي فوق مدينة تلعفر، ما جعلنا نقف في منتصف الطريق ولا نكمل المسير. في لحظة الوقوف شاهدتُ رتلاً ضخماً من سيارات نوع Opel، بمختلف الألوان وبمنافذ مظللة بلاصق أسود، عبر الطريق بلا توقف. كانت هذه الطريق تؤدي إلى قرى حدودية، ثم حدثت معركة تلعفر وراح ضحيتها الكثير أيضاً، لكن هذه المرة كانت حرباً جوية لا مواجهات برية. منذ تلك اللحظة انتقل نشاط الجماعات المسلحة من الفلوجة إلى داخل الموصل.

بدأت علاقة المدينة بهذه الجماعات بشكل واضح عندما ألغيت الفيزا بيننا وبين سوريا، وصار في إمكان أي شخص السفر براً من دون الحاجة إلى سبب. في المنطقة التي كنت أعمل فيها، شاهدنا عناصر غريبة، عرفنا في ما بعد أنهم مقاتلون عرب. كانوا مثل الزئبق يظهرون ويختفون تماماً مع وصول الدوريات الأمريكية للبحث عنهم في مداهمات عشوائية. لم نتعرف على وجوههم قط، ولم نشهد لهم نشاطاً في النهار سوى أننا كنا نلمس تنفيذ عملية ما هنا أو هناك، من دون أن نعرف متى تم التدبير لذلك. ظلت هذه المجاميع ومن يقودها شخصيات مجهولة لنا، نحن العامة، إلا في بعض الاستثناءات. توجه إصبع الاتهام وقتها إلى النظام السوري ودعمه لهذه المجاميع وتدريبها في معسكرات خفية في اللاذقية، بعد اعتراف بعض المقبوضين عليهم. بحكم عملي في قطاع الشباب والرياضة، توصلت إلى انجذاب الشباب لهذه المجموعات. كانوا لا يعلنون انتماءهم، لكنهم لا يخفون تأييدهم واعجابهم بهم. من خلال بعض النقاشات كنتُ أتوصل إلى عامل مشترك بين هؤلاء الشباب وسبب تأييدهم لهذه المجموعات، وكان إحساسهم بالرجولة وأن هذا ما على الرجل القيام بهِ. أحالني هذا إلى واقعة استهزاء أهل الفلوجة، أو المسلحين منهم، بأهل الموصل ونعتهم بـ"الدواجن" نظراً لتأخرهم في الانضمام إلى "الجماعات الجهادية"، بحسب وصفهم!

لا أعتقد أن هذا الاستفزاز كان السبب الوحيد لتوجه شباب المدينة والانضمام إلى الجماعات المسلحة، لكنهُ بالتأكيد ساهم في التحريض. تحريض الرجولة في الذكور، أو الذكورة في الرجل!

بعد مرور سنوات وبعد تغير ملامح الجماعات المسلحة في العراق، وتوحدها تحت راية تنظيم الدولة/داعش، ما زال هذا السبب هو الحافز للكثير من الشباب المنخرط الآن في هذه الجماعة. أتابع حسابات عديدة لهم، خصوصاً الرسمية، وحسابات شخصيات وقيادات معروف نشاطها في الانترنت، وهم ممن أصبحوا مصادر مهمة لوكالات الأنباء، لنقل الأخبار والصور والأفلام. أستشفُّ في تغريدات الكثير منهم أو عند احتدام النقاش بيني وبينهم، أن هناك تأكيداً صارماً على أن ما يقومون به هو من الرجولة وفرض سيطرة الرجال مرة أخرى، بعدما دمرت "العلمانية الكافرة" طبيعة الحياة التي أرادها الله للناس، بحسب توصيفهم. فالمرأة مكانها البيت وخدمة زوجها وانجاب الأبطال، والرجل مكانهُ ساحات القتال حتى يعلو اسم الله! وذلك رغم أن دور النساء في "التنظيم" تعدى البيت وخدمة الزوج والانجاب، إذ ظهرت وظائف جديدة لهن بحكم الشريعة التي تحرم لمس الرجل للمرأة الغريبة، مثل "شرطية الأخلاق" المتخصصة في النساء، أو "نساء الحسبة"، أو اقتصار وظيفتها كطبيبة ومعلمة على النساء والأطفال.

في حسابات "الداعشيات"، نجد ما يغذي هذا الشبق الذكوري وما يساعده في فرض السيطرة أخيراً على العالم. نراها لا تتردد في مؤازرة "زميلها" الداعشي وتحريضهِ على "الجهاد"، وقولها إن مهمتها هي مساندته في توفير البيئة والأرضية المناسبة التي تساعده في تحمل أجواء "المعارك المقدسة". وللذكورة سطوتها على الأنثى حتى على مدّعيات التحرر أحياناً. لقد حدث أن استمال كثير من شبان داعش، النساء والفتيات عبر الانترنت، أو في الواقع، ليدخلوهن في عالم حيث يشعرن بأن للمرأة دوراً عظيماً سيرفعها درجات عالية في السماء. للإيمان سطوتهُ وللذكورة سطوتها على الأنثى، لكننا لم نفكر يوماً ما الذي يسطو على الرجل غير الذكورة المنشودة؟

في حوار عابر مع زميل نروجي متزوج من تايلاندية تصغرهُ كثيراً بالعمر، وكان قد دفع مبلغاً ضخماً لأهلها ليزوّجوها إياه، قال:

- تزوجتها لأنها لا تقول "لا"!

فكرتُ كثيراً في كلام الزميل، وعلمتُ بعدها أن هناك مشكلة حقيقية في المنظومة الاجتماعية النروجية بسبب اختلال توازن المساواة، إذ صارت مع الوقت غلبة طرف على آخر باسم المساواة، وعملتُ أن لجوء الرجال الاسكندنافيين إلى الزواج من آسيويات ظاهرة جادّة وللسبب نفسه الذي أشار إليه الزميل.

الذكورة المفقودة واستعادتها، ليست المهمة الرئيسة التي قام من أجلها "تنظيم الدولة" وأمثالهِ بالتأكيد، لكنها طعم مُغرٍ لمن يفتقدها!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024