لص بغداد وأخوته

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2019/02/19
تحت عنوان "لص بغداد"، تقيم "دار النمر" في بيروت معرضاً مميزاً يتكون من سلسلة ملصقات أفلام، وقصاصات صحافية، وصور فوتوغرافية مختارة من مجموعة عبّودي أبو جودة الخاصة، وذلك حتى 25 أيار/مايو المقبل. يدعو هذا المعرض إلى استكشاف جماليات الملصقات "الاستشراقية" الطابع المُنتجة للجمهور الغربي، وصورة العالم العربي بوجوهها المتعددة المنعكسة في هذه المرآة، وذلك عبر هذه المختارات التي تمتد من عهد السينما الصامتة إلى عهد الفن السابع الذهبي في النصف الثاني من القرن العشرين.
 
عدد الملصقات المعروضة 108، وهي موزعة على أربعة أركان، أولها ركن الحب بصوره المتعددة التي تتجلّى في تسعة ملصقات تستمد مادتها من مواضيع مختلفة تعود إلى أزمنة الأمس والحاضر، وثانيها ركن "ألف ليلة وليلة"، وفيه مجموعة كبيرة من الملصقات تجمع بين "لص بغداد" واخوته، و"سندباد البحار" وسلالته، وما شابهها من قصص خرجت من عالم "الليالي العربية". ينتقل الركن الثالث من بغداد إلى بيروت، وقوامه حوالي عشرين ملصقاً تشهد على حضور العاصمة اللبنانية في السينما الغربية. بعدها يأتي الركن الرابع، وهو مخصص للأفلام التي تجمع بين سحر الشرق المتخيل ووقائع القرن العشرين في قالب الفانتازيا المتخيلة. 

يشكل الركن الثاني موقع الثقل في المعرض، ويشهد على انتقال عوالم "ألف ليلة وليلة" من دنيا الأدب إلى دنيا الشاشة الكبيرة في الغرب، وعودتها إلى عالمها "الأصلي" من خلال الأفلام التي دبلجت باكراً إلى العربية. في الذاكرة الجماعية، تبدو قصص "ألف ليلية وليلة" في المقام الأول إرثاً أدبياً كبيراً شاع في العالم العربي في زمن العباسيين قبل أن ينتقل إلى العالم الأوروبي في الأزمنة المعاصرة. في الواقع، لا نجد لهذه الليالي الذائعة الصيت أثراً كبيراً في خزانة الأدب العباسي الزاخرة في الكتب المتعددة لمواضيع. ويقتصر على هذا الإثر على شهادة تعود إلى المسعودي، وأخرى تعود ابن النديم. 

وُلد المسعودي في 836، وتوفّي في 957، وترك مجموعة من الكتب الموسوعية منها "مروج الذهب"، وفيه تحدّث عن كتب "موضوعة من خُرَافات مصنوعة"، وأصلها من "الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية"، "مثل كتاب هزار أفسانة، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خُرَافة، والخرافة بالفارسية يُقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنه وجاريتها وهما شيرزاد ودينازاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيها من أخبار ملوك الهند والوزراء ومثل كتاب السندباد وغيرها من الكتب في هذا المعنى". 

في المقابل، تُوفي ابن النديم البغدادي في 1047، وأشهر مؤلفاته "كتاب الفهرست" الذي جمع فيه كل ما صدر من الكتب والمقالات في زمنه. في المقالة الثامنة من هذا الكتاب، يذكر المؤلّف "أسماء الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات"، ومنها "كتاب هزاز افسان"، "ومعناه ألف خرافة"، وسبب تأليفه أن ملكاً من ملوك الفرس "كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممّن لها عقل ودراية، يقال لها شهرازاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه، وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها ويسئلتها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى ان اتى عليه الف ليلة، وهو مع ذلك يطأها، إلى أن رزقت منه ولداً أظهرته، وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها. وكان للملك قهرمانة يقال لها دينار زاد، فكانت موافقة لها على ذلك". يذكر ابن النديم أن بعض الملوك استعانوا بهذا الكتاب الذي "يحتوي على ألف ليلة"، ثم يضيف معلقا باقتضاب: "وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث".

من المفارقات الغريبة، تؤكد الشهادتان أن كتاب "ألف الليلة وليلة" وُجد في العصر العباسي الذهبي، إلا أننا لا نجد أثرا لأي نسخة مخطوطة منه تعود إلى هذه الحقبة. في الواقع، تعود أقدم نسخة معروفة من نسخ "ألف ليلة وليلة" إلى العصر المملوكي، وقد اقتناها العالم الفرنسي أنطوان غالان بواسطة صديق له من حلب في مطلع القرن الثامن عشر، ودفع فيها مبلغ أربعة ريالات. إلى جانب هذه النسخة، نقع على مجموعة من النسخ أحدث زمنيا، ويتضّع عند المقارنة بينها انها لا تعتمد على نص ثابت، مما يجعل منه كتابا "مفتوحا" يتحول ويتغير ويتبدل من زمن إلى زمن. 

انكب البحاثة على تحليل هذا الكتاب "المتحوّل" الذي شارك في وضعه عدد كبير من المؤلفين المجهولي الاسم كما يُقال، إلا أن الغموض مازال يكتنف أصوله. والشائع أن قصة شهرزاد التي تروى قصة للسلطان كل ليلة لكي تهرب من قطع رأسها هي في الأصل حكاية هندية تعود إلى القرون الميلادية الأولى. وقد وصلت هذه القصة عن طريق الترجمة الفارسية للعربية حيث شكلت نواة لقصص عربية ولدت وتطورت في مدن الشرق الأوسط. ويعود الفضل في إعادة اكتشاف هذا الكنز بالدرجة الأولى إلى أنطوان غالان الذي افتتن بها ودأب على نشرها على مراحل بين 1704 و 1717. حصدت هذه المجوعة عند اطلاقها في فرنسا نجاحا استثنائيا، وانتقلت إلى بريطانيا واسبانيا وايطاليا وألمانيا وهولندا من خلال سلسلة من الترجمات المتلاحقة، وانكب بعض العلماء على تشريح حكاياتها وتحليلها، ولا يزال هذا البحث يتواصل في زمننا.

أضاف أنطوان غالان قصصاً لا نجد لها أثراً في المخطوطات العربية قديمة معروفة، منها حكاية علاء الدين وحكاية علي بابا التي تُعتبر اليوم من أشهر حكايات "ألف ليلة وليلة"، ويعكف البحاثة على تحديد هوية مؤلف هاتين الحكايتين التي بلغت شهرتهما الآفاق. بعد غالان، نقل ادوارد لاين "الليالي العربية" إلى الإنكليزية، وتبعه في ذلك الكابتن ريتشارد فرانسيس برتون. تتالت الترجمات، وكان لكل منها خصوصيتها. قدم الدكتور ماردروس ترجمة فرنسية تميزت بطابعها "الخليع"، وقدم إنّو ليتمان ترجمة ألمانية حرفية جاءت بعد ثلاث ترجمات ألمانية وضعها تباعا غوستاف فايل، ماكس هينيغ، وفيليب بول غراف. هكذا انتشرت "الليالي العربية" في العالم، وباتت كتابا مفتوحا" له من الرحابة غير المتناهية بحيث لا يستوجب القراءة، إذ أنه جزء سابق من ذاكرتنا، كما هو أيضا جزء من هذه الليلة"، كما كتب خورخي لويس بورخيس في 1980.

ينقلنا معرض "دار النمر" إلى عالم "الف ليلة وليلة" في الذاكرة السينمائية، وهو عالم "شرقي" واسع متعدد الروافد تشكّل بموازاة الأفلام التي نهلت من ادبيات الميتولوجيا اليونانية الرومانية. في 1924، ظهر "لص بغداد" على الشاشة في فيلم أميركي من إخراج راوول ولش يُعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما الصامتة، وتكرّر ظهوره في 1940، ثم في 1960 و 1961، وساهم هذا الظهور في شيوع قصته في أكثر من صيغة. في عام 1942، ظهرت "الليالي العربية" في فيلم أميركي تبنّى قصة جديدة متخيلة تجمع بين هارون الرشيد وشهرزاد وعلاء الدين وسندباد، وحمل هذا الفيلم في نسخته المدبلجة إلى العربية اسم "شهرزاد" عنوانا له. وبعد ثلاث سنوات، خرج فيلم "ألف ليلة وليلة" في فيلم أميركي مغاير تبنّى قصة أخرى مبتدعة ظهر فيها علاء الدين عاشقا لأميرة تُدعى "أرمينا". 

في 1946، تجدد ظهور سندباد البحار في فيلم أميركي حمل اسمه، ونقل هذا الشريط مغامرات البطل البغدادي في رحلته الثامنة بحثا عن كنز الإسكندر المقدوني. وانتقل هذا الفيلم إلى العالم العربي في نسخة مدبلجة تحت عنوان "السندباد البحري". بعد بضع سنوات، ظهر هذا البطل في فيلم هندي عُرض في العالم العربي في 1952 بعنوان "علاء الدين والمصباح السحري"، ووُصف بـ"فخر الأفلام الهندية" كما تقول العبارة المدرجة على ملصقه. في 1954، ظهر علي بابا مع اللصوص الأربعين في فيلم فرنسي قام ببطولته النجم الكوميدي الفرنسي بمشاركة الراقصة سامية جمال.  وتجدد ظهوره في سلسلة من الأفلام بعد عدة سنوات، منها فيلم أيطلاي في 1970، وفيلم ياباني في 1971.

انتقلت الليالي العربية المليئة بالسحر إلى العالم المعاصر من خلال سلسلة أخرى من الأفلام حضرت في الركن الرابع من معرض "لص بغداد" في "دار النمر". من هذه السلسلة، يبرز فيلم "عبد الله وحريمه" الذي عُرف كذلك بعنوان "عبد الله الكبير". أنتجت هذا الفيلم الكوميدي شركتان مصريتان في 1955، وقامت بتوزيعه شركة فوكس الأميركية. وتدور قصته حول ملك مملكة تُدعى بونداريا، هام بحسناء تعمل عارضة، وعرض عليه الثورة والجاه، غير أنها رفضته وتقرّبت من ضابط في جيشه يُدعى أحمد. وثار الشعب على هذا الملك الذي باع مملكته من أجل امرأة، وتمكن من طرده بفضل الجيش الذي آزره في هذه الثورة. 

أقام الملك فاروق دعوى قضائية ضد مخرج الفيلم غريغوري راتوف الذي لعب كذلك دور الملك عبد الله، وطالب بمصادرة الشريط، وقال في دعواه إن هذا الفيلم الذي صُوّر في مصر يتناول شخصه بصفته ملكا سابقا لمصر، وقد شارك فيه مجموعات من الجيش المصري، كما اشتركت مجموعة من الراقصات المصريات في رقصاته، وظهر وزراء الملك في الفيلم بالطربوش المصري وملابس الوزراء المصريين التي اعتادوا لبسها.

في الختام، يمكن القول بأن معرض "لص بغداد" يشكّل مقدمة لاستكشاف هذا العالم السينمائي الواسع الذي حمل باكرا طابع "العولمة"، وهو عالم متعدد الأقطاب يحتاج إلى دراسة متأنية تكشف دلالات الاستشراق في الثقافة "الدنيوية" الترفيهية بوجوهها المختلفة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024