نسر السين: ما الوثائقي الساخر؟

حسن الساحلي

الجمعة 2022/05/13
خلال سنوات قليلة، تحوّل الراب في مصر إلى  مشهد ضخم، يمتلك جمهوراً ومغنين، ينافس بعضهم نجوم البوب والمهرجانات، كما تحقق أعمالهم عشرات ملايين المشاهدات في وسائل التواصل الإجتماعي. 
 
لكن رغم التطور الذي يمكن تلمّسه في منصات المشاهدة، بقي حضور الراب ضعيفاً في الإعلام التقليدي، كما في التلفزيون الذي لم ينتج حتى الآن أعمالاً تحاكي هذا العالم بشكل جدي أو تستغل شعبيته. 

يأتي خرق هذا الجمود اليوم من قبل منصات الإعلام البديل، وتحديداً عبر سلسلة كوميدية - وثائقية صدرت الشهر الماضي عبر "يوتيوب" بعنوان نسر السين" (إخراج كريم الدين الألفي وكريم مرتضى). تتألف السلسلة من خمس حلقات، مدة كل حلقة عشر دقائق، وتتناول جزءاً من يوميات مغني راب صاعد يحاول الوصول إلى للشهرة بمساعدة شلّة من أصدقائه. أُنتجت الحلقات بموازنة منخفضة وغالبية المشاركين فيها لم تتلق بدلاً مقابل خدماتها. 

رغم ضعف الإمكانات، حققت السلسلة نجاحاً كبيراً على مستوى الجمهور، ما جعل الممثلين أشبه بالنجوم في السوشيال ميديا، يلاحق البعض منشوراتهم وأخبارهم وتظهر صورهم في "ميمز" مستوحاة من أدوارهم في المسلسل. تضم اليوم صفحة محبي العمل "نسر السين سرب بوستينغ" في فايسبوك، 60 ألف مشترك، كما يمكن إيجاد عدد كبير من المقالات حول السلسلة في مواقع وصحف مصرية. 

يذكّر نجاح "نسر السين" بتجربة فيلم "رجال لا تعرف المستحيل" الذي أنتجه الثلاثي هشام ماجد، شيكو، وأحمد فهمي، بإمكانات ضئيلة العام 2002 (رغم منعه، انتشر الفيلم إذ تناقله الناس آنذاك على USB وهارد ديسك). قدم الثلاثي وقتها عملاً ينتمي لنمط لم يكن معروفاً بشكل كبير في العالم العربي، هو البارودي أو المحاكاة الساخرة التي تعيد أداء مشاهد من أفلام شهيرة بطريقة كوميدية. 


اليوم عرّف "نسر السين" الجمهور على نمط جديد هذه المرة، هو الوثائقي الساخر Mockumentary، الذي يعتمد على تصوير مشاهد ممثلة بطريقة الوثائقي، مع كاميرا تلاحق الشخصيات أو تجري مقابلات معهم. هناك تجارب من هذا النوع تعتمد بشكل أقل على الكتابة وتعطي مساحة أكبر للارتجال عند الممثلين (تنتمي لها "نسر السين") بالإضافة إلى تجارب أخرى تضع الممثلين في أمكنة معينة، مثل الشارع، لتسجيل ردود أفعال الناس (مثلاً تجارب الممثل الأميركي ساشا كوهين). 

في النقد السينمائي، عادة ما توضع أعمال الرواد التي تمتلك طائفة من المعجبين، في خانة Cult Film. من العناصر الأساسية التي تعرف الـ"كالت فيلم"، أن تحقق نجاحاً نقدياً وتمتلك طائفة متفانية من المتابعين تنخرط في مشاهدات متكررة للفيلم، اقتباسات من الحوارات، ونقاشات دائمة تدور حوله. 

هذا التعريف ينطبق تحديداً على ما تشهده مجموعات معجبي "نسر السين" في وسائل التواصل الاجتماعي، وكمّ التفاعل الذي خلقه عندهم. كما تؤكده حقيقة ريادة المسلسل القصير كأول عمل من نوع الوثائقي-الكوميدي Mockumentary في العالم العربي يحقق نجاحاً على المستوى الفني، ما يمكن أن يؤدي إلى ظهور أعمال شبيهة منه في المستقبل. 
يعود الفضل في تحقيق الوثائقي الساخر انتشاراً في الولايات المتحدة إلى مسلسل The Office الذي كرس لهذا النوع موقعاً دائماً من الإنتاج الترفيهي - التجاري. لكن قبل The Office، يعود تاريخ الوثائقي الساخر إلى الوراء تحديداً حتى منتصف القرن العشرين.. هناك مخرجون معروفون قدموا أعمالاً وثائقية مهدت لتطور النوع، مثل أورسن ويلز، لويس بيونيل، وبيتر واتكينز.

خلال السبعينات والثمانينات، تلقى الوثائقي الساخر دفعة إلى الأمام مع ظهور موجة أفلام الروك الوثائقية التي تلاحق صعود الفرق ونجومها (بشكل شبيه لأفلام سير القديسين). أدت هذه الموجة إلى خلق ردّ فعل من الأفلام الوثائقية الساخرة أبرزها This is Spinal Tap من إنتاج 1984 الذي يقدّم لنا نسخة هزلية من فرقة هيفي ميتال بريطانية تنازع لتحقيق النجاح.

يتقاطع "نسر السين" في مواضع عديدة مع This is Spinal Tap، فهو مثله يسخر من عناصر وطقوس معينة عند الموسيقيين من خلال دفعها إلى احتمالاتها القصوى وتطوير سيناريوهات متطرفة وعبثية حولها. الاختلاف الوحيد بينهما هو تباين الثقافات الموسيقية بين  الروك والراب، حيث يظهر مغني الروك فوضوياً متمرداً على القوانين والأعراف يفرغ غضبه بغنائه الصاخب وغيتاره الكهربائي، أما مغني الراب فيميل إلى العدائية والاستعراض والنرجسية ويعيش في حلبة صراع أبدية مع الرابرز الآخرين.
 

تنطبق صفات الرابر النرجسي-العدائي على "عمدة"، الشخصية الرئيسية في "نسر السين" الذي يحلم بالشهرة ويرى نفسه "الرابرا الخارق" أو نسراً للمشهد الموسيقي، يحول كلام الشارع والإيقاعات إلى أنياب ينقض بها على خصومه. أما سرب النسور، فهم مجموعة من القبضايات، بعضهم يعمل في المجال، وجزء آخر موجود فقط لتمضية الوقت والتسلية.  
يأخذ "نسر السين" مسارين أساسيين، الأول يركز على الشخصية الرئيسية التي تحاول الصعود إلى القمة عبر المراحل الثلاثة التقليدية: المبارزات الكلامية في الشارع، ثم مرحلة الاستديو التي تحوّل "كلام الشارع" إلى أغان ممزوجة بإيقاعات دارجة، ثم المرحلة الثالثة وهي التعاون مع رابر مشهور يعطي فرصة مرئية يفترض أن تساعد على الانطلاق.

أما المسار الثاني الذي يركز عليه العمل، فهو العلاقات بين أعضاء المجموعة والصراعات بينهم حول الطرق الأفضل لإيصال "عمدة". في تقسيم الأدوار بين الأعضاء، يتكفل "هوبز" (الشخص الوحيد الطبيعي في المجموعة) بالتفاصيل الإدارية والإنتاجية، "تيمو" بالموسيقى والإيقاعات، و"صاصا" بالاستديو، بالاضافة إلى "مدة" و"هانز" و"بدران"، الأصدقاء الذين لا يفعلون شيئاً سوى مؤازرة "عمدة" وتشجيعه.

قدّم المشاركون في العمل أداءً استثنائياً، رغم أن معظمهم ليس ممثلاً محترفاً. المثير أن فئات واسعة من الجمهور لم تكن قادرة على التمييز، إن كان ما تراه حقيقياً أو مزيفاً، رغم كمّ الهزل والعبثية في المَشاهد المصورة. لم يكن ذلك ليحصل، لولا الأداء الاستثنائي للمشاركين وقدرة صانعي العمل على خلق سرد متماسك من ناحية التصوير والمونتاج.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024