هيرنان باس... الايروتيكيا الذاتية كمخادعة للاغتمام

روجيه عوطة

الأحد 2020/10/25
لطالما وُصفت لوحات الأميركي هيرنان باس* بكونها ايروتيكية. ولكن، مَن ينظر إليها، وفي حسبانه أن ايروتيكيتها تعني احتواءها علامات جنسية، لن يجدها على ذلك الوصف، بل سيستفهم عن لصقه بها. أما، وحين ينتهي من هذا الحسبان الباطل، فهو قد يجد أن الوصف إياه ملائم لها، ولكن، وفي الوقت نفسه، هو ليس كافياً. بالطبع، الانتهاء من حسبانه يعني الاستعاضة عنه بغيره، الذي يفيد بأن الايروتيكيا لا يُستدل عليها بعلامات الجنس، إنما بإشارات الرغبة. وبفعل استعاضته هذه، من الممكن له الوقوع على هذه الاشارات في لوحات باس، ولكن، وخلال ذلك، يشعر أن تحديد هذه الايروتيكيا التي تفضي اليها بشيء آخر هو ضروري.

ما هي هذه الايروتيكيا؟

لأننا لا نطرح استفهام لا نملك اجابته مسبقاً، فالجواب مباشرة هنا هو: إنها أوتو-ايروتيكيا. فمن رسم الى آخر، ثمة ايروتيكيا ذاتية تعبر كل المناظر، وبعبورها هذا، تُحدد بشخوص مثلما تُحدد بأجواء، كما أنها، وبالتوازي مع ذلك، تُحدد بلحظة ذروتها.

شخوص هذه الأوتو-ايروتيكيا هي شخصيات متماثلة نوعاً ما، أي الشاب الذي غادر مراهقته، ولكنه، لم يطعن في نضجه، كما أنه يتسم، وعلى الدوام، بكونه غندورا (dandy). وهذا، من ناحية أناقته البسيطة، ولكن، المنمقة، أو من ناحية طلته، التي تشير، وباستمرار، الى أنه، وما أن يقف أو يجلس في مكانه، حتى يتطلع منه الى غيره. إذ إنه لا يتوقف عن الظهور على أساس أنه يبحث عن أمر ما، ولأنه، في كل رسم لا يبدو أنه وجده، يعتري وجهه ما يشبه الاغتمام. هذا الاغتمام هو الذي يجعله يعود وينتقل الى مكان مختلف، أو بالأحرى الذي يدفعه الى الاستمرار في بحثه، من دون أن تزول ملامحه عنه.

ولكن، الحديث عن اغتمام هذا الغندور لا يعني أن أجواء الأمكنة التي يظهر فيها هي أجواء بائسة. على العكس تماماً- وهذا مقلب من مقالب أسلوب باس- فالأجواء دائماً فرحة، مشعة، فهي قريبة من أجواء مدينة الملاهي، أو من أجواء المشاتل، التي تمتلئ بالحركات والألوان. في النتيجة، يبدو الغندور باغتمامه في هذه الأجواء كأنه دخيل عليها، أو غريب عنها على الأقل، ما يحمل على الاعتقاد أنه لا يتمكن من الاستمتاع بأمكنتها. الا ان هذا الاعتقاد ليس دقيقاً، فالغندور لا يصل الى اغتمامه في هذه الأمكنة سوى بعد أن يستنزف أجواءها بالمطلق، وبالتالي، ينتقل، وعلى متن اغتمامه، منها. هنا، أيضاً، مقلب من مقالب أسلوب باس، الذي يرسم غندوره في وقت الاستنزاف ذاك: ما أن ننظر الى سحنته حتى نعرف أنه لم يأت الى مكانه للتو، بل كان فيه، وهو، وفي اثر الاغتمام نفسه، يستعد لتركه.


في هذا الوقت، هناك لحظة "ذروة"، وسمتها هذه تتعلق بكونها تبدي اغتمام الغندور على ما هو عليه، تبدي مصدره. من الممكن تعيين لحظة منها بالاستناد الى لوحة "ثلاثة مصاصي دماء": لحظة اللقاء بالغير. إذ إن الغندور، وفي هذه اللحظة، يبرز كأنه بعيد عن هذا اللقاء، منقطع عنه، وبالتوازي مع ذلك، يعاني من كونه لا يقدر عليه. في هذه الجهة، يكمن كل الاغتمام، اغتمام غياب العلاقة مع غيره، وهذا الغياب، يحاول سده بالتنقل وحيداً بين أمكنته، يحاول سده بأجوائها، على سبيل حبه لذاته. معادلة الغندور: لأنه يصعب علي أن ألتقي بغيري، أحب ذاتي. في إثر هذا الحب، هناك رغبة يوجهها إلى ذاته، وبالتالي، تدور عليه، أو داخله، لكنها، وفي النتيجة، سرعان ما تنضب، سرعان ما تنطفئ، ومن هنا، يعود ويولد اغتمامه. فإيروتيكيا الغندور الذاتية تقع بين سده لغياب غيره، الذي ينم عنه الاغتمام، وبين رجوعه إلى هذا الغياب، إلى اغتمامه اياه. ايروتيكيته هي ايروتيكيا بين اغتمامين، اغتمام ينقله إلى مكانه، حيث يرغب بذاته، واغتمام يصرفه من هذا المكان، أو يقول له انه استنزفه على الاقل. وهذا الاغتمام، محرك الاوتو-ايروتيكيا، يحل في بداية الرغبة ونهايتها من مصدر واحد، وهو غياب الغير، انعدام العلاقة معه.


في هذا السياق، أعود إلى البداية، اي الى الذي ينظر إلى لوحات باس، فيقول ان لا ايروتيكيا فيها. فهو قد لا يفعل ذلك- وهذه مراجعة لما كنت قد قلته في المطلع- لأنه لا يجد في  اللوحات إشارات جنسية، إنما لأن ايروتيكية باس، يعني الخاصة بغندوره، ليست فقط ذاتية، إنما، ولأنها على هذا الشكل، غالباً ما تبدو عابرة، بحيث، وما ان يزاولها صاحبها، حتى تتبدد، فتتركه على اغتمامه. بالتالي، من لا يجدها في اللوحات فلأنها تومض قليلاً قبل أن تتلاشى، ولا تخلف وراءها سوى دعوة إلى المزيد منها، إلى المزيد من المخادعة للاغتمام...إلى المزيد من الاغتمام.
*معروضة في غاليري perrotin بباريس.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024