"الرحلة مرسومة":التبلد الاوروبي أمام سيل اللاجئين

شادي لويس

الجمعة 2018/12/28
"لا نريد المزيد من صور المراكب المطاطية"، كان صوت مدير المهرجان الثقافي يرن ببعض السخرية، وهو يخبرني بمشقة اختيار أعمال فنية تتعلق بالمنطقة العربية، لبرنامج فعالياته اللندنية. وكان الرجل محقا إلى حد كبير في تبرمه. ففي وقت لقائنا قبل عامين، كانت صور المراكب المطاطية التي تحمل لاجئين إلى شواطئ المتوسط قد أغرقت صالات العرض الفني والمهرجانات الثقافية، الأوروبية، كما صفحات الجرائد. وصل الأمر إلى حد من التشبع كادت معه درجات اللون البرتقالي- الذي تلوّن سترات النجاة – ان تصيب رواد الغاليرهات بالدوار.

كان ما يطلق عليه في أوروبا "أزمة اللاجئين" طارئاً وضاغطاً واستثنائياً بشكل غير مسبوق في الذاكرة الحية، ويستحق إلحاحاً بصرياً بالتأكيد. لكن الصورة وتكرارها لا تلعب لصالح تأنيب أو وخز الوعي العام بالضرورة. ففي كتابها "حول الفوتوغراف"، الذي أصبح واحداً من الكلاسيكيات عن التصوير، تكتب سوزان سونتاغ: "البيان المصور الواسع للشقاء والظلم في كل أرجاء العالم منح كل شخص ألفة معينة مع الوحشية جاعلاً من الرهيب أمراً اعتيادياً – جعله يظهر مألوفاً، بعيداً، وحتمياً: إنها مجرد صور". لكن "صدمة الوحشية التي تزول مع تكرار الرؤية"، كما تقول سونتاغ أيضا، ليست المخاطرة الوحيدة التي تحملها الصورة، فـ"المحتوى الأخلاقي للصورة في غاية الهشاشة"، ومن الممكن أن ينقلب بكل بساطة إلى الضد. فصور مراكب اللاجئين المثقلة بركابها استخدمها اليمين الأوروبي بكل احتفاء، لسرد رواياته عن الزحف البربري على القارة العجوز. وهنا نجح التكرار، لكن في أن يكون مخيفاً، وعنواناً للخطر الداهم.


مطلع شهر نوفمبر هذا العام، افتتح "إيلستوريشنز هاوس"، في لندن، معرضا فنيا بعنوان "الرحلات مرسومة: رسومات من أزمة اللاجئين". ويظهر من النص الدعائي للمعرض، بأن القائمين عليه واعون بأزمة التشبع الفوتوغرافي: ولذا يضعون الرسمة في مواجهة الصورة الفوتوغرافية. فالرسامون الاثنا عشر المشاركون في المعرض كان لديهم " فرصة فريدة ليصبحوا صحافيين بصريين، فيما قضوا وقتاً في أوضاع كان التصوير الفوتوغرافي فيه ممنوعا أو تطفلياً إلى حد غير مقبول". لكن الرسم ليس مجرد بديل من الدرجة الثانية حتمته الضرورة، فبحسب "كاتينايرني"، أحد منسقي المعرض: "الرسم لديه قدرة خاصة على توصيل مسائل معقدة وحساسة".

وتبدو تلك الفرادة المفترضة لقدرات المرسوم راجعة إلى الانخراط الذي يتطلبه فعل الرسم نفسه، وإلى الحميمية الممتدة زمنيا بين الفنان وموضوعه البشري أو بينه وبين ذاكرته، وبينه وبين أدواته، والتي لا يقابلها في التصوير الفوتوغرافي في أحيان كثيرة سوى التحين والقنص وبشكل أقل مبدأ الصدفة. أو كما تذهب سونتاغ، في "عن الفوتوغراف" مرة أخرى، إلى أنه بينما تدعي الصور الفوتوغرافية أحيانا أنها "قطع من العالم، مصغرات للواقع"، فالرسومات كالنصوص المكتوبة هي "بيانات عن العالم"، "تأويل له"، أو "ترجمة مختارة بدقة".

تقدم أعمال المعرض معالجات لخبرات ذاتية تذهب إلى أعمق مما يمكن لأريحية الفوتوغرافيا أن تقدمه، بالرغم من افتقادها لهالة "واقعية" الكاميرا. فالإيراني ماجد الدين الذي وصل إلى لندن مختبئا داخل ثلاجة، والفلسطيني، محمود سلامة الذي قضى 17 شهرا في مركز احتجاز في أستراليا، والليبية البريطانية آسيا الفاسي، جميعهم قدموا بيانات بصرية عن خبرة اللجوء، وترجمات مرئية لتاريخ شخصي ومباشر. وتقدم الأعمال الأخرى المعروضة تسجيل أصحابها لتجربة الآخرين، والتي كانوا شهودا عليها بين أماكن القتال في سوريا، ومعسكر "الغابة" في كاليه الفرنسية، وخطوط المواجهات الطائفية في العراق، ومراكز اللجوء ومسارات رحلات اللاجئين في روما وبرلين وصربيا وجزيرة "كوس" اليونانية وحدود بلغاريا وأماكن أخرى كثيرها.

لكن وبالرغم من المرونة التي يمكن للرسوم أن تمنحها، إلا أن القصص التي قدمتها أعمال المعرض بدت مألوفة تماما، كصور المراكب المطاطية، ومعتادة مثلها إلى حد الملل. فمن المدهش والصادم أيضا، أن قصة قاصر أفغاني قطع الطريق من كابول إلى لندن على ظهور الشاحنات، وعلى الأقدام، هارباً ومتخفياً من نقطة حدودية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، لم تعد تدهش أحدا، ولا حتى ترغمه على التوقف أمامها لأكثر من لحظات. لم يعد تسجيل أهوال الحرب في أماكن أخرى، أو وصف معاناة الرحلة الطويلة، أو تأكيد الاضطرار أو الخطر فاعلاً، فسواء كان الوسيط الرسم أو الكاميرا، يبدو ببساطة أن الرهيب أصبح أمر عاديا، وكل محاولة لإضفاء الأهمية لا تنتهي إلا بتبخيس المأساة، وكل ضربة من ضربات التكرار لا تقود سوى الى مزيد من التبلد. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024