"كيف تعاود الظهور": مشاريع فنية لإلهام الناشرين المستقلين

حسن الساحلي

الخميس 2019/08/01
يستهل معرض "كيف تعاود الظهور: من بين أوراق النشر المستقل" (يستمر حتى 17 أيلول/سبتمبر في "مركز بيروت للفن") بورقة كبيرة طُبع فيها نص للمكسيكي يوليسيز كاريون، نشره في منتصف السبعينات تحت عنوان "الفن الجديد لصناعة الكتب"، وكان يومها بمثابة مانيفستو، قدم من خلاله الفنان اقتراحاً يوتوبياً لنمط جديد من الكتب مختلف عن تلك التي يسميها "صناديق أو حاملات الكلمات" التي نراها في المكتبات وعلى الرفوف.

يقول كاريون إن الكتاب يجب أن يكون حقيقة مستقلة ذاتياً، النص فيه جزء من كلّ، ويتحمل مسؤولية نشره الكاتب في جميع مراحله. أما لغة الكتاب فلا يجب أن تنشد البلاغة وإيصال أحاسيس الكاتب أو أن تكون مفرطة في أدبيتها، بقدر ما يجب أن تخلق بنية متكاملة مع العناصر الفنية الأخرى والعلامات التي، تشكل سوية عملاً فنياً مستقلاً.

وضع منظمو المعرض، نص كاريون، إلى جانب دليل المعرض الذي طُبع بالطريقة نفسها وبالحجم نفسه، ما جعل النص يبدو كأنه دليل آخر يمكن الإرتكاز عليه، لفهم الذهنية التي تنطلق منها المنسقتان، مها مأمون وآلاء يونس، في اختيار الأعمال الفنية والمنشورات والتجارب المتعلقة بالنشر المستقل للإضاءة عليها.



ينتمي المعرض إلى مشروع "كيف تـ" الذي كان يهدف في البداية إلى نشر سلسلة كتب توظف شعبية "كتب الأدلة" للتعامل مع بعض احتياجات اليوم "سواء كانت مهارات، أو أفكاراً، أو إدراكات، أو مشاعر"، وتجمع هذه الكتب "بين التقني والتأملي، بين التعليمي والفطري، وبين الحقيقي والخيالي". أول كتب المشروع الذي تأسس في العام 2012، كان "كيف تختفي" لهيثم الورداني، ومن بعده "كيف تعرف ما الذي يجري حقاً؟" لفرانسيس ماكي، ثم مجموعة من العناوين لكتّاب وفنانين عرب ومن العالم، قبل أن يتمدد المشروع اليوم، نحو الإهتمام بمجال النشر بشكل عام، جاعلاً هذا المعرض بمثابة دليل لمساعدة الناشرين المستقلين لإيجاد مسارات جديدة لعملهم، من خلال الإضاءة على أكثر من 40 مشروعاً وعملاً فنياً مرتبطاً بالنشر.

ووفق تعريف مأمون ويونس، فإن هدف المعرض هو "استعادة قدرة المؤلف على التأثير في العلاقات التي يخرج على إثرها منشوره، والنظر في موازين القوة وسبل الإتاحة، وجهود الأفراد تجاه استعادة الحق في النشر... من خلال عرض مشاريع تناور أنظمة النشر التقليدية التي امتلكت رغبة في المشاركة في الفضاء العام بشروطها الخاصة".

والمساحة الأكبر خصصها المعرض لدار نشر "بوست آبولو بريس"، التي أسستها الفنانة اللبنانية سيمون فتال في سان فرانسيسكو بداية الثمانينات، وأصبحت في غضون عقود ذات شهرة كبيرة، رغم عدد منشوراتها القليل. ويقدم المعرض، المجموعة الكاملة للدار، ومختارات من أرشيفها وبعض رسوم الأغلفة التي صممتها فتال بنفسها، بالإعتماد على رسوم إيتيل عدنان (وضعت رسوم عدنان في أغلب كتب الدار). كما استضاف المعرض، فتال، في ندوة، سردت خلالها قصة الدار منذ نشر كتاب إيتيل عدنان "ست ماري روز" الذي طبعت منه آلاف النسخ في غضون أشهر، وتحول إلى مرجع أكاديمي في الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط والحرب الأهلية اللبنانية، ممهداً لتعاون فتال مع أسماء أوروبية وأميركية مهمة، صنعت هوية الدار المتخصصة في الشعر التجريبي والنثر (المترجم). وقد اعتُبرت الدار، لعقود، ركناً أساسياً في المشهد الأدبي لمنطقة خليج سان فرانسيسكو، والتي تضم عدداً كبيراً من دور النشر والمراكز الأدبية.



قدم المعرض عدداً من المشاريع المتعلقة بالبحث، من بينها "98 أسبوعاً" (مروة وميرين أرسانيوس) الذي أعاد قراءة العديد من منشورات الفن والثقافة التي أنتجت ووزعت في العالم العربي ابتداء من الثلاثينات، مركزاً بشكل خاص على أثر الحداثة في الترجمات والتصاميم الجديدة والجماليات واللغة والأفكار اليوتوبية التي تقدمها هذه المطبوعات. إضافة إلى مشروع لهالة البزري، يهدف لتأريخ الكتاب في لبنان وبلاد الشام، ويعود إلى بدايات ظهور الصحافة ويرسم خريطة ظهور الأفكار والأيديولوجيات بالتوازي مع حركة الطباعة في المنطقة. وسلّط المعرض ضوءاً على مشروع بعنوان "فهرس الممارسات النشرية" الذي أسسه ثلاثة شبان سوريين في برلين العام 2015، ويبحث في مسارات النشر والأرشيف وآليات تداول الكتب وظهورها واختفائها. وتضمن ذلك محاضرة أدائية في سياق المعرض، رصدت حركة النشر والتوزيع في محيط محطة الحجاز في دمشق، والتي تحول جزء منها إلى معرض للكتاب وفضاء "متحرك للمعرفة" في وسط المدينة، ما ساهم في انتقال العدوى إلى الحي المجاور للمحطة، فبات يضم دور نشر ومصانع ورق ومطابع ومكتبات وباعة للكتب المستعملة والأرشيف.

من أبرز المشاريع البحثية التي يضيء عليها المعرض، هو للفنان برنارد شيله، الذي خلق نسخة عربية من مشروع عمل عليه سابقاً في متحف الفن الحديث في نيويورك، وكان قد بدأه بإطلاق دعوة مفتوحة لإرسال الكتب غير المرقمة بحسب الرقم الدولي الموحد للكتاب (ISBN)، خالقاً سجلاً إلكترونياً يتضمن مجموعه 1800 مطبوعة تبحث في "الكتب الإستثنانئية التي تنسحب من الأنظمة العالمية لتجارة وتوزيع الكتب". وبتكليف من المعرض، أنتج شيله نسخة عربية من مشروعه، تتيح التعرف على جهد النشر في المنطقة العربية واتجاهاته الجديدة والشابة والبدائل الإلكترونية للنشر والقراءة.

ويضعنا المعرض أيضاً أمام تجارب مثيرة للإهتمام، شهدت تعاون جهات متعددة للتحايل على العقبات التي يضعها السوق أو السيستم، أمام النشر المستقل، من بينها مجموعة قصص مصورة أبطالها "ناشرون"، قرروا مواجهة الأنظمة القمعية من خلال نشر وتوزيع النصوص الممنوعة والبيانات ذات الحساسية السياسية، وذلك من داخل بيوتهم وبمساعدة عائلاتهم ودوائر أصدقائهم الصغيرة. وتجري القصص المعتمدة على أحداث حقيقية، في ثلاثة مدن، هي طهران العام 2009، الرياض العام 1987، وباليرمو ربيع 1992.

كما قدم المعرض تجربة الناشرين الأتراك، العام 1988، للتحايل على منع مقاطع من كتاب هنري ميلر "مدار الجدي" بسبب محتواه الجنسي، حيث قام يومها 40 ناشراً تركياً، بالإتفاق بين بعضهم البعض ومن دون علم دار النشر ومترجم الكتاب، بإنتاج نسخ من الكتاب حيث غطت الصفحات الممنوعة بالأسود، وأرفقت بالكتاب نص حُكم المحكمة الذي يضم الفقرات الممنوعة. ومن التجارب الجماعية الأخرى التي أضاء عليها المعرض، مشروع تحت عنوان "لوجستيات خفيفة" لتوزيع الكتب، والذي قام على نسج شبكة من القراء – المسافرين – الناقلين، هم على استعداد لتوظيف فائض المساحة والوزن في أمتعتهم في سبيل نقل كميات صغيرة من المطبوعات المستقلة.

يضم المعرض أيضاً أعمالاً لكتّاب عرب، تتناول مواضيع مرتبطة بالنشر، من بينها رواية جبور الدويهي "طبع في بيروت"، والتي تخبر قصة شاب أتى إلى بيروت من أجل نشر روايته لكنه رُفض من عدد من الناشرين، قبل أن يصبح موظفاً في دار نشر (وقدم المعرض لوحات توثق شخصيات الرواية). إضافة إلى قصة "أديب الشباب" محمود عبد الرزاق، الكاتب والمؤلف المصري الذي حقق انتشاراً واسعاً خلال الثمانينات بسبب إعلاناته التي كان يخطها بنفسه على جدران شوارع القاهرة أو يحملها كلافتات في مدرجات مباريات كرة القدم. وهناك أيضاً قصة صنع الله ابراهيم في المعتقل السياسي، بين العامين 1954 و1964، والتي شهدت إنشاء مكتبة للمعتقلين مخبأة تحت بلاط أرضيات السجن، ومعرض كتاب وتجارب صناعة الكتب التي كانت تجري داخل السجن باستخدام المواد المتاحة في الداخل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024