سرقتُ كتاب جيهان السادات.. ولم أقرأه

وجدي الكومي

الإثنين 2019/05/20
في ذاكرتي واقعة ﻻ أنساها، جرت بيني وبين جاري المحب للقراءة، والذي جعلني أحب قراءة كتب الجيب البوليسية، إذ كان يرغب في أن يبادل بعضها معي. كنا نذهب معاً لشراء كتب الجيب، ويحاول إقناعي بأﻻ يقتني كل منا اﻷعداد نفسها، كي يمكننا تبادلها، إﻻ أن عنادي الطفولي كان يمنعني من اﻻنصياع لرأيه، فكنا أقتني كل شيء، وأرفض بعد ذلك مبادلته أي شيء.

جاءت شقيقتي الكبرى، ووجدت جاري هذا يلح عليّ بالساعات كي نتبادل القصص المصورة تلك، وأنا أرفض بعناد، وصل إلى حد إذلاله. لم تعجبها طريقتي في معاملته، ولقنتني درساً في أﻻ أكون جشعاً وأنانياً، وأن أكون كريماً خصوصاً مع أقرب اﻷصدقاء، وأبناء الجيران. أوجعتني كلماتها الغاضبة وآلمتني، فمضيت في المساء بكافة الكتب التي رغب الجار في تبادلها معي، ومنحتها له عن طيب خاطر، بلا مساومات فظة.

يقول هنري ميللر في كتابه اﻷشهر "الكتب في حياتي": إن كتاباً يستلقي عاطلاً على الرف لهو ذخيرة مضيعة، وكمثل النقود، يجب أن تظل الكتب فى انتشار دائم، أعر واستعر الكتب والنقود إلى الحد اﻷعلى، خصوصاً الكتب، ﻷن الكتب تمثلك بشكل ﻻ نهائي أكثر من النقود، فالكتاب ليس صديقاً فحسب، إنه يصنع اﻷصدقاء.

كبرت على حب اقتناء الكتب، واﻻحتفاظ بها، آملاً أن يوما ما سيأتي لقراءة كل ما اقتنيته،  لكن هذا اليوم لم يأت، وبدأت الكتب تتراكم أسرع مما كنت آمل. وإثر هذا التراكم السريع، بدأ الانشغال بإيجاد مساحات لتخزين الكتب. في البداية كانت غرفة نومي في منزل عائلتي تضيق تدريجياً بكل ما اقتنيه من كتب، وظهرت الحاجة جلية إلى تمرير الكتب لأصدقاء كما يوصي هنري ميللر. لكني لم أمرر أبداً أية كتاب، ببساطة ﻷني كنت محباً للاقتناء، حتى بعد ظهور أزمة مساحة المكتبة وغرفة نومي.

حتى وصية نجيب محفوظ بشأن اقتناء الكتب التي يقرأها فقط، والتي لا أتذكر أين قرأتها، لم أستطع تنفيذها، رغم أني أعدُّ محفوظ أباً روحياً لي، ومعلمي اﻷول، وأسطى الكتابة الذي أقتفي أثره. اليوم حينما أدخل غرفة مكتبي، أجد العديد من الكتب واﻷعمال اﻷدبية، واﻹصدارات في حقول التاريخ والفنون مكدسة على الرفوف من دون قراءة، في انتظار اليوم الذي ﻻ يأتي للإطلاع عليها.

أعزي نفسي بما قاله الفيلسوف اﻷلماني فالتر بنيامين، في مقاله المعنون "تفريغ الكتب"(*)، عن الكتب غير المقروءة، وعن اقتناء الكتب، بأن شراء كتاب جديد، هو بمثابة ميلاد لهذا الكتاب، وكما يفرح طفلي بلعبته، أفرح أنا أيضاً باقتناء كتاب. والشعور نفسه كتب عنه بنيامين، إحساس الغبطة الشديدة كلما اقتنيت عملاً جديداً، أو مجلداً فخماً. انتابني هذا الشعور حينما اقتنيت في فترة دراستي الجامعية، اﻷعمال الشعرية الكاملة لأبي نواس، وحينما اقتنيت اﻷعمال الكاملة لمحمود درويش، وغسان كنفاني، وغيرهم.. ثم لما بدأت أجمع أعمال محفوظ الرواية والقصصية، بشغف مقتني المجموعات الفنية والتحف، حتى مع تأخري في قراءة بعض هذه اﻷعمال. يقول بنيامين عن السؤال الذي يلاحق دوماً مقتني الكتب: ..وهل قرأت كل هذه الكتب؟ مستعيناً برد أناتول فرانس على أحد المعجبين بمكتبته، وسأله: هل قرأت كل هذه الكتب مسيو فرانس؟ فأجابه: وﻻ حتى عُشرها، أنا ﻻ أعتقد إنك تستخدم أطقم المائدة الصيني كل يوم؟

اضطررت لاستعارته.. أو سرقته
ومع حبي وشغفي الكبيرين بالكتب، لم أسرق كتاباً واحداً في حياتي، ولم أر أنه ينبغي إهانة الكتب بالحصول عليها عنوة. كنت متشبثا بفكرة أن تكريم أي كتاب تكمن في بذل الغالي والنفيس من أجل اقتنائه. أما الكتب الرخيصة، أو معدومة القيمة، فهي الجديرة باﻹعارة، أو اﻻستعارة، أو التمرير كما يقول هنري ميللر. لذلك حينما انتقلت من شقة إلى أخرى، مؤخراً، أعدت فرز مكتبتي، مستخرجاً منها حوالى 12 حقيبة كتب ﻻ تستحق عناء الرص في صناديق الكتب، وكذلك ﻻ تستحق أن يتعب من أجلها الحمالون في رفعها على أكتافهم، والنزول بها إلى عربة نقل العفش. لذلك، أعلنت في صفحتي في الفايسبوكية، عزمي التخلي عن هذه الكتب ببساطة.

أما واقعة السرقة الوحيدة التي ارتكبتها في حياتي، فكانت في مستهل عملي الصحافي، محرراً ومغطياً للفعاليات الثقافية، وتلقيت تكليفاً بتغطية حفلة توقيع مذكرات سيدة مصر اﻷولى جيهان السادات، ولم يكن بحوزتي الكتاب، ولم أعرف ما كتبته السيدة في مذكراتها، وكان مطلوباً مني أن أحصل منها على تصريحات، فهكذا تعمل الصحافة المصرية، ﻻ مراجعات عميقة، بل تغطية من السطح، ﻷبرز الحضور، والضيوف ونجوم المجتمع الذين حضروا اﻻحتفال، مع تصريحين ساخنين لنجمة أو نجم حفلة التوقيع.

وفي الحفلة التي دشنتها دار النشر في أحد القصور الأثرية، كانت نسخ الكتاب متراصة في كل مكان، وكان الضيوف يحصلون عليه، وينقدون ثمنه ويذهبون من فورهم إلى طابور طويل أمام جيهان السادات التي تجلس في صدر القاعة توقع النسخ. لقد كانت هذه هي المرة اﻷولى واﻷخيرة التي اختبرت فيها خفة يدي، إذ تناولت نسخة، متظاهراً بتصفح الكتاب، ثم وقفت في الطابور ﻷوقعها، وأحصل على التصريحين المطلوبين لكتابة موضوعي. لم أكن بارعاً في السرقة إلى هذا الحد، لكن مسؤولي التوزيع في الدار تجاهلوا فعلتي ببساطة رغبة منهم في أن تمر الحفلة بسلام من دون إحراج ﻷحد الضيوف.

وإلى اليوم لم أقرأ هذا الكتاب، ولا أعرف أين هو في مكتبتي، وربما يكون واحداً من الكتب التي مررتها إلى آخرين عملاً بنصيحة هنري ميللر.

(*) ترجمه أمير ذكي ونشره في مجلة "عالم الكتاب" المصرية قبل سنوات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024