كيف يُخصى الراب المصري؟

أحمد ناجي

الخميس 2020/04/02
علّق كريم حسام في "تويتر": "بما إننا قاعدين، مش من حق مغنيين الراپ\تراپ في مصر يقولوا الـn-word في مزيكتهم". رد الفعل على الغريدة كان عشرات التويت من محبي الراب المصري وهم يكتبون ويذكرون الكلمة "N" في مكايدة سخيفة، تعكس مستنقع التنمر الذي غرق فيه الراب المصري. أما كلمة الـ"N" فهي مستهل كلمة زنجي (Nigger/Negro) بالانكليزية. أما لماذا يمكن أن نكتب زنجي كاملة؟ ولا نستطيع أن نكتب كلمة الـN؟


لا أعرف الحقيقة، لكن هكذا فرضت علينا قواعد الصوابية السياسية في السنوات الأخيرة.

تغريدة كريم أتبعها بفيديو تفصيلي تظهر فيه مغنية راب بيضاء أميركية، تغنى على المسرح وحين تبدأ في استخدام كلمة N، يثور الجمهور عليها ويقاطعها حتى تتوقف عن الغناء. كلمة الـN، واحدة من الكلمات الخاصة في الثقافة الأميركية، فهي مصنفة ضمن الكلمات العنصرية، لكنها في الوقت ذاته مستخدمة داخل الثقافة الأفرو-أميركية، وترسَّخ العرف الاجتماعي بجواز استخدامها إذا كنتَ من أصول أفريقية أميركية، بمعنى أنه لديك في تاريخك العائلي ميراث العبودية الذي عاشه السود الأميركيون. فاستخدام الكلمة، يرتبط بأن تكون من ضحاياها، فتمتلكها، أما إذا لم تكن كذلك أو حتى إن كنتَ إفريقياً فقط، فليس من حقك استخدام الكلمة.

لكن حين ينتقل النقاش من الحيز الأميركي إلى الحيز العالمي، فإنه يصبح محيراً على مستويات عديدة.

يستعير كريم المقياس الأميركي، مطالباً بتطبيقه على الرابر المصري، وردّ الفعل كان عشرات التغريدات الساخرة من كريم، بل وراح المعلقون يكتبون الكلمة N عشرات المرات في مكايدة رخيصة تتميز بها الموجة الأخيرة من الراب المصري.

لم يُعدم كريم بعض التعليقات التي أعلن أصحابها انتماءهم لأفريقيا، وبالتالي حقهم في استخدام الكلمة.

بالطبع، لا كريم ولا أي من المعلقين، أشار إلى الدور الاستعماري المصري في إفريقيا، وكيف استبعدت مصر -لقرون- الأفارقة وأصحاب البشرة السوداء، بل وكيف أهدرت وأغرقت حضارة أفريقية عظيمة، كالحضارة النوبية، في جرة قلم، وكيف حتى أثناء الحرب الأهلية الأميركية، انحازت مصر القرن التاسع عشر إلى الجنوب العنصري، ثم فتحت ذراعيها لكل جنرالات الجيش الكونفدرالي بعد خسارتهم الحرب. لدى المصريين حالة إنكار تام لتاريخهم الاستعماري وميراثهم الاستعماري في إفريقيا، ويلقون اللوم دائماً على الرجل الأبيض. لكن هذه مواضيع تاريخية معقدة، ليس مجالها مناقشة تتعلق بأسباب انحطاط المعاني في الموجة الأخيرة من الراب المصري.

أريد أن أوضح أولاً أنني عاشق حتى الثمالة والأوفر دوز للراب المصري والعربي، مقالاتى السابقة هنا، وعدد من المواقع توثق لهذا، وأنا مستمع قديم، ومتابع قريب. وفي هذا السياق أتفهم تماماً الطبيعة الذكورية للراب في العموم، الغضب الكامن في معانيه، العنف الذي يحمل الإيقاع، الحنق المنفجر في "البانش لاين"، والغنج في التكرار الأبدي للـ"هوك".

لكن هذا كله لا يبرر اضمحلال التنوع في مواضيع أغاني الراب، حتى أصبحت كل الأغاني تتمحور حول موضوع واحد. الذات الذكورية لمراهق يحلم بالمال والشهرة ويستعرض مهاراته اللغوية في التنكيل بالآخرين. وأبداً لم يكن هذا هو الوضع في الراب المصري. وبمقارنة سريعة بين الراب في مصر وفي المنطقة العربية، نجد أن هذا ليس الوضع في الراب التونسي أو المغربي أو حتى في الشام بأقاليمها ودولها المختلفة.

فكيف ولماذا وقع الراب المصري في هذا "اللوب" الأبدي؟ وكيف اختفت كل المواضيع، ولم يبقَ إلا الاستفحال الذكوري، والعنف اللفظي، كبيضتين مسلوقتين لا يقدم الراب المصري غيرهما؟ بل وللدقة كيف أُخصي الراب المصري من كل مواضيعه؟

منذ الإرهاصات الأولى للراب المصري في بدايات الألفية، كان هناك العنف اللفظي، والغضب، وطبعاً "صلصة" الذكورة التي تغرق فيها ثقافة الراب عموماً، لكن المواضيع كانت أكثر تنوعاً. كان هناك الكثير من النقد الاجتماعي، وكان هناك الراب التسجيلي والذي يبدو أشبه باليوميات، سواء يوميات هزلية على طريقة MTM في "أمي مسافرة وحأعمل حفلة"، أو "واي كرو" في أغنية مثل "وركبنا الأتوبيس"، أو حتى في الأغنية ذائعة الصيت مجهولة النسب "شبح البضان". 

في ذاك الزمن، كانت مواضيع الراب مزيجاً بين العام والخاص. يتحول "الرابرز" إلى آلة تسجيل، ترصدُ الذات والواقع المحيط بها، ثم تعكسه وتبثه في مكبر صوت. كان هناك بُعد سياسي حاضر بقوة في تلك الأغاني، انحياز للفقراء، انحياز لجيل من الشباب، انحياز لمدينة، وأحياناً أفكار قومية مثل فريق "ارابيان نايتز"، الذي كان يغني "فكك من اللى انت فيه" لكنهم ينادون في أغان أخري بالوحدة العربية.


مع الربيع العربي والثورات، انغمس الراب في قلب المعركة السياسية، وأصبح للأغاني الثورية نصيب أساسي من الراب المصري، "ام. سى أمين" كان يغنى منتقداً الاخوان والعسكر والخونة، العنف اللفظى وتلك الجرأة المميزة للراب أصبحت في الميدان جزءاً من معركة ثورية في الفن والسياسية.

ثم جاءت الهزيمة، للثورة أولاً، والمجتمع ثانياً. تساقط معظم أفراد ذلك الجيل من مغنى الراب، ومع تنامي سلطة السيسي، فُرضت رقابة صارمة على الحفلات وعلى كافة المنتجات الفنية والإعلامية. الغناء عن المجتمع أو الشارع أو المشهد العام خطر بالغ، فلن يدعوك أحد لإقامة حفلات، لن تتسابق شركات الإعلانات للعمل معك والإنتاج لك، والأسوأ أنك قد تتعرض للاعتقال والملاحقات الأمنية.

في الوقت ذاته بزغ تياران من الراب المصري، الأول هو الراب المعرض، الذي يدير ظهره للمذابح في الشوارع ليغني عن بكرا "اللي جاي أحلى، والخير غدا، والشمس التي ستشرق" مثل زاب ثروت والجوكر وغيرهم من رموز راب التنمية البشرية الذين قدموا خلطة مناسبة من الراب لا تغضب الدولة وتجذب شركات الاعلانات التي تحولت للمنتج الموسيقي الأهم في السوق.


أما التيار الثاني فشكله "ابويوسف" وهو مغنٍّ وموزع ومنتج موسيقي، وبالتالي يقدم موسيقى وايقاعات خاصة به، مخلوقة له خصيصاً وليست مستنسخة من إيقاعات أخرى غربية فقط. أما مواضيع الأغانى فهي قطع متوسطة الحجم من الذكورية المستفحلة، الفخر والتفاخر، عنف غير موجه لهدف محدد.. كل هذا منقوع في صلصة العدمية، مع رشة بهارات من تقطيع الكلمات والجمل ثم لصقها بشكل عشوائي لإنتاج حالة تشويش تدعي العبثية، بينما هي ليست سوى تعبير عن اختيار الهروب من مواجهة الحقيقة والواقع، والاحتماء في الدولاب مع جهاز التسجيل، وبناء فقاعة خاصة من المعجبين.

على خطى أبويوسف، وأساسيات خلطته، برزت الموجة الجديدة من الراب. راب يتظاهر بالشجاعة والقوة، لكنه في الحقيقة راب خائف. الخوف هو الذي يدفع مغني الراب لتصنع الصرامة والفحولة والقوة على طريقة مغني كباتيستوا. الخوف هو الذي يجعلهم عصبيين، مضطربين متنقلين في حدة بين الثقة في النفس وانعدام الثقة، كحالة مروان بابلو الذي أنهى مسيرته هرباً من الضغوط، وخوفاً من تهديدات أهله، وأشباح الجنة والنار.

الخوف هو الوقود الذي يولد منه "رابرز" مصر، العدمية الكاذبة التي تروج لها الأغاني. الخوف هو الذي يجعلهم يغنون للفلوس والشهرة وماركات الملابس، فهم يبحثون في الفلوس والشهرة ومديح "الشلة" عن فقاعة يحتمون بها من واقع الحياة السياسية والاجتماعية القادر في أى لحظة على دهسهم.

الخوف هو ما يدفعهم لإخفاء ذواتهم. فلا حديث في أغاني الراب الجديدة عن النفس أو التجارب الشخصية، لن يروي مغني الراب المعاصر يومياته مثل ما هو الحال في تقاليد الراب الأميركي أو حتى في الموجة الأولى من الراب المصري. الوحيد الآن في الساحة الذي يتحدث عن نفسه وحياته ببساطة ومن دون تضخيم هو شاهين هرم الراب الصامد منذ الموجة الأولى.


بدلاً من امتلاك الشجاعة للحديث عن النفس وتعريتها، يخلق "رابرز" الموجة الجديد شخصيات وهمية، ويقتبسون تجارب لا تخصهم، مثل الحديث المستمر عن تجارة المخدرات، وأنهم "جابوها من تحت"، بينما يتقاضون ما معدله 50 ألف جنيه (3 آلاف دولار أميركي) في الحفلة الواحدة. ويضاف إلى عامل الخوف، صغر سن معظمهم، وصغر سن جمهورهم، وبالتالي فالأغاني مشبّعة بخجل المراهق الذي يحاول إخفاء هشاشة قلبه ومشاعره بالعنف وقناع اللامبالاة.

مدهش مثلاً، غياب الأغاني عن الحب والعلاقات العاطفية، اللهم إلا تجارب قليلة لويجز أو ابويوسف. تحضر المرأة في الراب الجديد بصفتها "صاحبتك" التي "معرفتش تكيفها فجت لى بكيفها". كأن المرأة مجرد ملكية نسلب لمعايرة الخصم على خسارته.


لا يمكن إلقاء اللوم كله على المشهد السياسي في مصر، فليس السيسي ونظامه هم من خَصوا الراب المصري. بل كذلك شركات الإعلانات التي أصبحت الآمر الناهي في السوق، والتي تريد صناعة راب شعبي لا يتحدّث إلا عن القوة والاستعراض. والأهم من كل ما سبق، اللحظة الجماعية التي يعيشها الشباب وجمهور الراب في مصر. فالخوف يظلل الجميع، وليس مغنو الراب وحدهم الخائفين، بل كذلك جمهورهم، ويدفعهم هذا الخوف إلى الزاوية، بعيداً من المجتمع والحياة العامة، سعداء بأننا جميعاً في الدولاب.

لذلك حينما يذهب "رابر" ليغني مع نجوم المهرجانات (الذين يعانون المشاكل ذاتها، وإن كان الأمر أكثر تعقيداً)، يثور جمهوره عليه، ويتهمه بالتخلي عن فن الراب الحقيقي، وفي ثورتهم يطالبونه بالعودة إلى الدولاب مرة أخرى ليغني أغاني خائفة مخصية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024