لبنان بسرواله الداخلي

رشا الأطرش

الجمعة 2020/11/20
كأن لبنان الرسمي قرر فجأة الخروج إلى العالم بملابسه الداخلية: "كما أنا في بيتي، كذلك خارجه". لا داعي لفنون الدبلوماسية، ولا لربطة العنق، ولو تكاذباً. والأرجح أن لهذه النَّوبة تفسيرين: أولاً، وزير خارجية أكثر عونية من سلَفه والقائد جبران باسيل، يطبّق سِمات الثقافة العونية الصافية -المشهود لها محلياً بشوفينيتها وذكوريتها وأبويّتها- على العلاقات الدولية. وثانياً، الحرص، في الملفات ذات الأهمية والتأثير، على تأكيد الولاء لحزب الله والأجندة الإيرانية ومحور الممانعة، مع الالتزام بحصر مناورات التمايز التكتيكي في الهامش الذي يتكرّم حزب الله بمنحه، وربما تطويب مناور أوحد هو باسيل -المُعاقَب أميركياً بتُهم الفساد إضافة إلى ملاحقته قضائياً بدعوى الضلوع في عمليات اختطاف وتعذيب. 

هكذا، جالساً في اجتماع وزاري دولي بالفانيلّة وشحاطة الحمّام، امتنع لبنان، ممثلاً بوزير خارجيته شربل وهبة، عن التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر "التحالف من أجل حرية الإعلام". ليتبين أن السبب هو الفقرة القائلة بـ"أهمية التمثيل (representation) في وسائل الإعلام للمجموعات التي غالبًا ما تعرضت هي نفسها لأشكال متعددة ومتقاطعة من التمييز والانتهاكات وتجاوزات أخرى لحقوق الإنسان، بما في ذلك الأفراد من أقليات عرقية وإثنية ودينية؛ الاشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة؛ والمثليات والمثليون ومزدوجو الميل الجنسي ومغايرو الهوية الجنسانية وثنائيو الجنس (LGBTI)". فالوزير الذي ادّعى حرصه على عدم مخالفة النصوص القانونية اللبنانية التي تجرّم "الجنس خلافاً للطبيعة"، مظلّته السياسية هي التيار الذي يُعدّ المخرج شربل خليل أبرز وجوهه وأصواته في السوشال ميديا، وخليل عُصارة الهوموفوبيا والعنصرية والذكورية. وهو نفسه التيار الداعم للقاضي بيتر جرمانوس الذي اختار الرد على وثائق أبرزها الإعلامي مارسيل غانم، باتهام غانم بأنه يستهدفه لأنه كبَح تحرّشاته الجنسية.

لا يهم أن قضاة لبنانيين محترمين ما عادوا يطبّقون هذا النص القانوني البالي المتعلق بالجندر والميول الجنسية. وأن علاقته بالإعلام والمواثيق الإعلامية مُختلقة. وأن القانون بعمومه في لبنان، حين يُطبّق، يستحق حفلة. لا يهم أن وزيرة الإعلام، منال عبد الصمد، علَّمَت على زميلها في الخارجية إذ لفتت إلى أنه كان في وسعه أن يتحفظ على بنود تتعارض مع القوانين اللبنانية، ويوقّع الاتفاقية، فاتفقا على إخطار الجانب الكندي بهذه الفكرة البديهية، العبقرية في قاموس الرجل الذي أمضى أكثر من 40 عاماً في السلك الدبلوماسي. ولا ضير في أن مجتمع "الميم" مُمَثّل فعلاً في الإعلام اللبناني، سواء في البرامج الكوميدية أو الدراما، لكن كشخصيات منمَّطة هزلية سلوكها يستجرّ الضحك التحقيري.

لكن، مهلاً، لعل لسعادته غاية أكبر وأهم، كقمع الإعلام عموماً بالتلطي وراء موضوع المثليين. فـ"العهد القوي" الذي ينتمي إليه لا يحبذ النقد، ولا يأنس للتعبير الحرّ حين يقارع أداءه، وهو الذي ينفق نصف وقته في السلطة وبمعية مكوناتها، مستدعياً عشرات الصحافيين والناشطين والمدوّنين إلى التحقيق لدى الأجهزة الأمنية (خلافاً للقانون هنا، معاليك، وبالتجاوز القانوني ذاته أوقف الناشط والأكاديمي مكرم رباح في مطار بيروت وطلب منه تسليم هاتفه والكومبيوتر بلا إشارة قضائية). وحتى في مسعى كبت حرية الرأي والإعلام، يثبت وهبة أصالته العونية، وأهليّة بمحلّية تُستعرض في الخارج خلافاً للطبيعة.. طبيعة وزارة الخارجية. إذ لم يعبأ باتخاذ حُجَّة يُنظر إليها دولياً وحقوقياً بتقطيب الحاجبين. ولم يكترث لحفظ ماء وجه بلاده، العضو المؤسس للأمم المتحدة والشريك في صوغ شرعة حقوق الإنسان، بالتحايل المتعارف عليه بين الدول النامية وذات الأنظمة الاستبدادية، والذي لم يُجافِه لبنان حين وقّع مثلاً على اتفاقية بكين لحقوق المرأة العام 1995 وما زال دون تطبيق بنودها. لا داعي لكل هذا التكلّف. فلنخرج إلى العالم كما نحن، بسروالنا القذر المثقوب.

وبهذه الأريحية ذاتها، وبوفاء كَلبيّ قلّ نظيره، إلا لدى النظامَين السوري والعراقي، صوَّت لبنان بـ"لا" على إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة لجرائم السلطات الإيرانية في مجال حقوق الإنسان. لبنان الذي لم يلجأ إلى الامتناع عن التصويت كمَخرَج مُلطَّف لإحراجه في تبعيّته، وهو الذي، محلياً، مَنَع حتى الأفلام الإيرانية لمُخرجين معارضين خوفاً على "العلاقة مع دولة صديقة". والأرجح أن لبنان هذا سيظلّ مرفوع الرأس، واثقاً في تفوّقه الأخلاقي، حين يطالب الأمم المتحدة بإدانة الانتهاكات الإسرائيلية لسيادته، وجرائمها في حق الفلسطينيين الذين نزاود عليهم في حب أرضهم ونضطهدهم في أرضنا. لبنان الرسمي هذا، لا يخجل بحقيقته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024