نجيب محفوظ وماركيز في لقاءات افتراضية

شريف الشافعي

الجمعة 2021/01/01
إن ما تضنُّ به الحقيقةُ، قد يجودُ به الافتراض، وإن سماءَ الافتراض دائمًا هي خيالاتُ المبدعين، القادرة على تخليق أرض موازية، وترسيخ واقع بديل، أكثر خصوبة وإدهاشًا وجمالًا، وغير منقطع الصلة في الوقت نفسه بما نعيشه من أحداث، ونحلم به من أفكار وتصوّرات وآمال.
في حياتهما، ودّ أديبا نوبل؛ نجيب محفوظ (11 ديسمبر/كانون الأول 1911-30 أغسطس/آب 2006)، وغابرييل غارسيا ماركيز (6 مارس/آذار 1927- 17 إبريل/نيسان 2014)، أن تتاح لهما فرصة للقاء، وجهًا لوجه، وأن يتصافحا يدًا بيد، وقلمًا بقلم، لكنّ ذلك لم يحدث لظروفهما الصحية، ولامتناع محفوظ عن السفر سنوات طويلة.
 
ولقد ظل كلّ منهما يحفظ تقديرًا كبيرًا للآخر، ما تبدّى في رسائلهما المتبادلة، ومنها رسالة ماركيز لمحفوظ إثر تعرضه للطعن ومحاولة الاغتيال الغادرة عام 1994، وحملت بحروفها الإسبانية تهنئة حارة لمحفوظ على نجاته، وإقرارًا بإسهاماته في حركة الأدب العالمي، وشدًّا من أزره لمواصلة العطاء تحت أي ظرف "إن أشعة الشمس تنتصر دائمًا على السحب، مهما كانت داكنة". ومنها كذلك رسالة محفوظ بدوره لماركيز، في عام 2004، عندما ألمّت بالأخير محنة أثرت على قدرته على الكتابة، فكتب محفوظ له كلمات تشجيعية مشابهة لما سبق أن سمعه منه قبلها بعشر سنوات "ليس ضروريًّا أن يكون لديك شيء تكتبه لتمسك بالقلم، أمسك بالقلم في جميع الأحوال، واكتب".


فليكن بين الرجلين لقاء في ديسمبر/كانون الأول 2020! هذا ما قرره المبدعون، وبالأخصّ مجموعة من رسّامي الكاريكاتير من موطنيهما "مصر وكولومبيا" ودول عدة، منها: العراق وإيطاليا والهند والمكسيك والبيرو وكوبا والبرازيل وكوستاريكا وإسبانيا والصين وروسيا وإندونيسيا وغيرها، وجاء ذلك في معرض جماعي بمشاركة مئة فنان، استضافه مؤخرًا متحف محمود مختار بالقاهرة، بالتعاون بين العلاقات الثقافية الخارجية، وقطاع الفنون التشكيلية، وسفارتي كولومبيا والمكسيك بالقاهرة، والجمعية المصرية للكاريكاتير برئاسة الفنان جمعة فرحات، وبتنسيق الفنان فوزي مرسي.

بأيّ عيونٍ نظر الفنانون إلى محفوظ وماركيز في لقائهما المشترك الذي زعموه بريشاتهم وألوانهم؟ وكيف جسّدوا شخصيتيهما وعوالمهما وأفكارهما وطقوسهما وملامحهما الجسدية والنفسية وأبطالهما وأجواء أعمالهما؟ وماذا إذا تحرّكا معًا من "بين القصرين" إلى "زمن الكوليرا"؟! وهل تتحمل هشاشة الموبايل "صورة سيلفي" تجمعهما؟! وماذا بإمكانهما أن يحتسيا إذا جلسا سويًّا في "مقهى نوبل"، غير المشروب الرسميّ للمثقفين "عصارة الكتب"؟! 
من أسرار فن البورتريه قدرته الفائقة على التقاط زوايا الحياة وتفاصيلها الدقيقة، بشتى انعطافاتها وتمثلاتها، في وجه الشخص الذي يجري تصويره، إلى جانب الاحتفاء بقسماته الظاهرة، واقتناص جوانياته الداخلية الغائرة، في لحظة ربما تبدو ثابتة، لكنها بالضرورة مشحونة بالدينامية والتفاعلية والنبض والمشاعر الجيّاشة والتقلبات المزاجية. 
وبالتحام فن البورتريه بأبجديات "الكاريكاتير"، ذلك الفن المبني على أسس المبالغات والتناقضات والمفارقات وتضخيم النسب وتقزيمها والتهكم والسخرية والغوص تحت الجلد بالإضحاك والإبكاء في آنٍ، فإن البورتريهات الكاريكاتيرية المتولّدة هي أكثر الأساليب البصرية تحررًا من شروط الميكانيكية في التعبير، حيث تنتقل بالمشاهد المنقولة من حيّز المعقول إلى فضاء المستحيل، وتصير اللوحات دراما حركية تمثيلية تترجم الشخوص والمواقف وطبقات الأعماق، بدون الحاجة إلى عبارات تفسيرية مصاحبة. 

وقد تعاطى الفنانون المصريون المشاركون في المعرض بحساسية فائقة مع "البورتريه الكاريكاتيري" بصيغه العصرية الشفيفة، مقتحمين أغوار محفوظ وماركيز بجسارة وذكاء، وببساطة لا تخلو من إبهار. ففي لوحة للرسّام حسن فاروق، يغادر ابن حي الجمالية بعصاه الشهيرة منطقة "بين القصرين" في قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي، متّجهًا إلى "زمن الكوليرا" الذي يعالجه ماركيز بالحب، وقد ارتدى كل منها ميدالية نوبل، وتأنق في ملابسه، وأحيط بشخصيات أعماله الروائية الشهيرة، الأمر الذي جعل لقاءهما أسطوريًّا، فحرص ماركيز على تسجيله بصورة "سيلفي" بكاميرا الموبايل الذي يمسكه بيده اليمنى، فيما يده اليسرى تحيط بكتف محفوظ.

واستخرج الفنان فاروق موسى في لوحة أخرى ينابيع الطبيعة المرحة لدى الكاتبين، من خلال تركيزه الكاريكاتيري على ضحكتين عريضتين لهما، احتلتا الصدارة والبطولة في لقائهما الافتراضي، وبدت ملامحهما بالكامل بمثابة خلايا وأنسجة وكتل متراصة من الابتسامات المتجاورة جنبًا إلى جنب. 

وجمع الفنان خالد صلاح رأسيهما وجسديهما في كيان عضوي واحد يرتدي ميدالية نوبل، ويحمل التوءمان الملتصقان قلمين مسنونين، أعلاهما علما مصر وكولومبيا. فيما اختزل الفنان أدهم لطفي الشخصية المحفوظية في رأسٍ عملاقٍ فوق جسد نحيل، باعتبار أن هذا الرأس هو الوعاء الأعظم، الذي لا يزال يفيض بالكنوز حتى يومنا هذا.
بدورهم، قدّم الرسّامون العرب والأجانب إضافات إلى الحركة الفنية العالمية من خلال تصويرهم غير التقليدي لأديبي نوبل النابهين، ومن أعمالهم المثيرة لوحة الفنان العراقي أركان الزيدي، حيث جلس محفوظ وماركيز معًا في المقهى "قهوة نوبل"، وقد اندمجا في الحديث الشيق وإطلاق سيل الضحكات، وحولها النادل الشعبي وعازف الغيتار في حالة بهجة استثنائية، أما المشروبات التي تملأ الطاولة فوق بعضها البعض، فهي أصناف الكتب المتنوعة!


وتعددت اللقطات والكادرات الفريدة في المعرض الجماعي، وفيها أبرز المشاركون (ومنهم: كاري "كوستاريكا"، إدواردو روتشا "المكسيك"، برابهاكار ويركار "الهند"، ترسيوس "كولومبيا"، زيفالوز "البيرو"، داجوستينو "إيطاليا"، فريول موريلو "كوستاريكا"، شنكار بامارثي "الهند") خصوصيات محفوظ وماركيز، كفراشات ماركيز الشهيرة التي صار يصاحبها في الطيران، وآلته الكاتبة التي اتحدت بأصابعه، وشاربه الكثيف "العلامة المميزة"، وكذلك عصا محفوظ اللصيقة، ونظارته السميكة، ولازمته المعروفة بوضعه يده إلى جوار أذنه، إذا أراد أن يستمع لما لا يسمعه البشر!


لقد أثبت رسّامو الكاريكاتير باقتدار أن لغة الصورة المكثفة، بصدماتها القوية ووخزاتها المؤثرة، تفوق آلاف العبارات وتتجاوز عشرات المقالات والتنظيرات في كشفها شخصيتي محفوظ وماركيز، واستدعاء سلوكياتهما القريبة وأشيائهما الحميمة، وطرح عوالمها الإنسانية والفنية الثرية على الطاولة من دون مواربة.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024