ثقافة التحدي

روجيه عوطة

الأحد 2020/11/29
بين فترة وأخرى، يرسل لنا الصحب في مواقع التواصل وتطبيقاته دعوات الى التحدي. وهذه الدعوات لا تقتصر على موضوع بعينه، إنما تشتمل على المتنوع منه: السيلفي، الرقصة، الطبخة، المسلسلات الخمسة، الكتب العشرة، صورة الطفولة، الضحكة، غطاء الزجاجة، الثلج، الكرسي... فمن الممكن أن يتحول كل شيء الى ذاك الموضوع، بحيث يكفي أن يطرحه أحد ما على نحو يفيد بالتباري فيه مع غيره، مثلما يفيد بحضه على المشاركة في هذا التباري، حتى يصير كذلك. بالتالي، من الممكن الحديث عن ثقافة تحدٍ، وهي ليست ثقافة التنافس، التي لطالما تعرضت للنقد عطفاً على كونها عصب الفردية، عصب مؤسساتها، بل أنها تتصل بها لكي تبدلها.

وأول تبديلها لها هو أنها تعممها، اذ تنتشر أينما كان، وفي انتشارها هذا، تفقد وقعها: كان التنافس يصنع الفرد، أما، التحدي فهو باروديا صناعته. وهذه الباروديا بحد ذاتها إشكالية، وهذا، لأنها تشير الى أمور مختلفة، أي الى انتهاء صناعة الفرد، والى استمرار صناعته بعد انتهائها، وفي النتيجة، الى التزامه بها، لا بل حنينه اليها، وفي الوقت نفسه، إلى سخريته منها. التحدي هو ضحك الفرد على كونه منافساً، مواصلته التنافس، والتعزي بكون التنافس قد انتهى، أو أنه ليس في المتناول. ولكن، كيف يشتغل التحدي؟

فعلياً، هو يضبط العلاقة بين مزاوله وغيره بالإنطلاق منه، بمعنى أنه صلة اجتماعية، تفيد بأن الأول يدفع ثانيه الى التباري معه على شكل دون سواه: يدفعه الى أن يتخطى الحد. فالأول يقدم للثاني حده، أي يرسم أمامه الحد الذي بلغه في موضوعه. وبتقديمه هذا، يقول له أنه الأفضل، وقوله هنا ينطوي على إخباره أنه لا يستطيع مماثلته. من ناحيته، الذي يتلقى ذلك التقديم، وبقوله واخباره، ولكي يشارك فيه، ما عليه سوى أن يقلبه الى ما يشبه الاستفزاز له، وهكذا، يمضي الى قبول التحدي. في اثر ذلك، يحاول تخطي الحد الذي رسمه متحديه، وهذا، بعد أن يطابقه مع حده هو. بعبارة أخرى، يحاول أن يرسم حدا جديدا يقع بعد الحد المرسوم له، أن يذهب في الموضوع أبعد مما ذهب متحديه، فلا يماثله فحسب، إنما يتجاوزه أيضاً.

على هذا المنوال، وبعد التنبه الى كون التحدي هو التباري على تجاوز الحد، يمكن تسجيل ملاحظتين حياله. الأولى، أنه، وبتعريفه كذلك، يرتبط بايديولوجيا التجاوز، التي، وفي حال الإشارة الى محل من محلاتها، يمكن الوقوع عليها في الرياضة مثلاً، بحيث أن المتريض الأفضل هو المتريض الذي يتجاوز حدوده الجسدية والنفسية مرة بعد مرة، "حدك الوحيد هو أنت... تجاوزه" (شعار تحفيزي). ولكن، التحدي إياه، وفي حين أنه يتعلق بتلك الأيديولوجيا، ويبديها، الا أنه-وهنا الملاحظة الثانية- يجعلها على حالها. فمزاول تحدي تسمية عشرة كتب مهمة، لا يدرك ما الحد الذي يرسمه له متحديه، ويدعوه الى تجاوزه. بالطبع، في وسعه أن يتوهم حدوداً كثيرة، ولكن، في نهاية المطاف، يبدو أنه بلا حد، ومع ذلك، يتجاوزه، وهذا، من أجل أن ينال عدداً من اللايكات. فعلياً، الحد هنا هو هذا العدد، بالتالي، لا يتعلق بموضوع التحدي، انما بالرجاء الذي يدور عليه، وعندها، يكون في خدمته، في خدمة عمله.
فمثلما كانت المنافسة تنشط المؤسسة، التحدي ينشط الوسيط. في الحالة الأولى، كانت المنافسة تنتج، في الحالة الثانية، التحدي يجذب. في الحالة الأولى، كانت المنافسة، ومع الاكثار منها، تحمل الى العداوة، وفي الحالة الثانية، يؤدي التحدي، وعند الاكثار منه، الى البورنوغرافيا. في الحالة الأولى، كان تجاوز الحد يرادف التنافس، وفي الحالة الثانية، صار التجاوز أيديولوجيا، بحيث أن التحدي يبديها كما هي، أي أيديولوجيا تواصلية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024