شريهان تُلاعب وصفة الفشل الكاملة

ناصر كامل

الخميس 2021/04/15
ثلاث دقائق وخمسون ثانية كانت كافية لأخذ أفكار ومخيلات عشرات الملايين من المصريين في إتجاهات شديدة التنوع والتناقض، ومعها أثار كل واحد ما هَدَته إليه انحيازاته الاجتماعية وثقافته وذائقته الفنية من قضايا عامة، بعضها عميق الغور والأهمية، كما شغل الصغير والتافه منها مساحة ليست بصغيرة.

ما قدمته شريهان أبعد تأثيراً من مجرد إعلان لإحدى شركات الإتصالات المصرية، فقد تزامن بثه مع نشرها بياناً في صفحتيها في فايسبوك وانستغرام، مما لا يدع مجالا للشك في إنها أرادت أن تجعل من ظهورها حدثاً ذا أبعاد هائلة.

في الصدى الأول -ولم يمض عليه سوى يوم واحد فقط- ستتطاير أسماء كبرى، وتنفتح عوالم متداخلة على بعضها البعض: سياسية في أبعادها العليا، مال وأعمال في تعقيداتها الإقليمية والداخلية، تجارة سلاح، مليارات سائلة متجولة، صنوف متنوعة من عالم الجريمة، والمخابرات، خيالات لا ضابط لها، حديث عن الفن، طرف من تفاصيل شخصية، أحقاد ونكايات، شائعات ووقائع موثقة، فيوض من الاستعادات والذكريات،.. إنها الوصفة الكاملة لحال الجوع إلى المعرفة وحرية التعبير والإبداع والنشر التي تكبح العقول والمخيلة.

تعود شريهان بعد غياب عن الفن دام نحو عشرين عاماً، هذه وحدها واقعة فريدة، فريدة لأن الاستقبال كان احتفالياً بصورة طاغية، فريدة لأن "النجوم" عندنا تخفت وتنزوى ولا تعاود التوهج مرة أخرى (ليلى مراد، سعاد حسني، وغيرهما). وهي عودة فريدة بعيداً من أي تقييم للمنتج الفني المقدم، كأن شريهان نثرت مسحوقاً سحرياً فخلبت العيون والآذان، فأغشتها وصَمَّتها عن سواها. ومتى؟ في لحظة خاصة، لحظة انفجار كبرى، تُسمى موسم رمضان الفني؛ وهو موعدها المفضل والمحفوظ في الذاكرة برصيد كبير من "فوازير رمضان" المستوحى بعضها من عوالم "ألف ليلة وليلة"، وهي لحظة تشغل فيها الإعلانات حيزاً مرموقاً، حيث تبدو مساحات الإعلانات آشبه بساحات حرب، اخترقتها شريهان واكتسحت الجميع.

هذه اللحظة الخاصة ليس أدل على تعقيدها من بيان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام؛ بعد ساعات من بث الإعلان، والذي شدد فيه على "ضرورة التزام القنوات الفضائية بضبط فترات الإعلانات التي تذاع أثناء المسلسلات، والتوقف عن الإسراف والتطويل الذي يفسد حق الجمهور في المشاهدة والاستمتاع بالأعمال الدرامية، بعدما تلقى شكاوى كثيرة بشأن عدم تنظيم الإعلانات واعتدائها على حق الجمهور، ودخول كل القنوات في ماراثون إعلاني لا يخدم الأعمال الدرامية ولا الهدف من إنتاجها".

هذا جانب من أثر توقيت العودة المختار بعناية، حيث صراعات شركات الإعلانات، وصراعات من يملكها من هيئات ومؤسسات وأجهزة وشركات، أبرزها وأهمها تابعة للدولة ومراكزها المسيطرة. ومن هنا تنبع أهمية تسريب قيمة الأجر الذي تلقته شريهان مقابل أداء الـ230 ثانية. فرغم أن أحداً لم يؤكد أو ينفي تلقي شريهان مليونَي دولار أميركي (حوالى 31 مليون جنيه مصري) كأجر، إلا أن الرقم كان محل جدل محتدم، وتوزع المصريون فرقاً وشيعاً في الهجوم والدفاع، السخرية والاستهجان والتعاطف.

تعود شريهان؛ التي دخلت عالم الفن صغيرة، في فيلم "ربع دستة أشرار" (1970)، إذن، بعد غياب نحو عشرين عاماً، وهي تصر على ترسيخ توقيتها لبداية الغياب (2002)، في بيانها، بل تحدد الشهر (سبتمبر) وكأنها تنعش الذاكرة، أو تريد للمخيلة أن تنشط، وهذا تم بكفاءة لافتة: فحضرت أسماء نجلَي الرئيس الراحل حسني مبارك (علاء وجمال)، وأمّهما (سوزان)، كما حضر اسم رجل الأعمال المصري، حسام أبو الفتوح وزوجته، هذه الأسماء قرنتها الحكايات والقصص الصحافية طوال هذه السنوات بأسباب غياب شريهان، ومحاولات قتل مزعومة، وحوادث طرق، وصراعات داخل القصور.

قصص ملتصقة بالذاكرة ومحفوظة في الأرشيف، من دون حسم أو ترجيح، استُدعيت جميعاً مع الإعلان والبيان الذي يلمّح ولا يصرّح.

واتصالاً بهذا المنحى من العوالم المتداخلة، أبرز البعض مواقف شريهان أثناء ثورة 25 يناير، وأعادوا نشر صور ومقاطع مصورة وتدوينات لها، أهمها ما قالته وما كتبته في نهاية العام 2012: "أطالب بتسليم السلطة من المجلس العسكري إلى حكومة مدنية فوراً. وأقول لسيادة المشير طنطاوي في جمعة رد الاعتبار والكرامة: إرحل أنت غير مأسوف عليك".

في مواجهة هذا الاستدعاء، وهذا التحشيد لمواقف لم تعدم قيمتها "التاريخية"، استدعت جبهة أخرى تفاصيل شخصية من حياة شريهان الطفلة، ونزاعات الوراثة والنسب، وعلاقاتها الأسرية والعاطفية، وتفاصيل من حياتها الزوجية، كزوجة ثانية لرجل الأعمال الأردني، الحامل للجنسية البريطانية، علاء الخواجة، المتزوج من الفنانة إسعاد يونس. وبلغت جبهة معاداة شريهان "الثورية" الحد الأقصى، لدرجة السخرية من اسمَي ابنتَي شريهان: لؤلؤة وتالية القرآن.

في حياة شريهان، بلا شك، مجموعة هائلة من التفاصيل الشخصية المثيرة، المعقدة، والثرية، وشديدة الدرامية والمأسوية، وفي حياتها سمات شخصية وفنية يشاركها في مثلها عدد محدود من الفنانات، مثل نعيمة عاكف، وماجدة الخطيب، وربما روبي، أو سيمون. وفي كل واحدة، نلاحظ بوضوح بروز الموهبة، والدأب، الشخصية المستقلة، ثم تلك السمة الفارقة، قبول التحدي، ورفض الانكسار والانسحاب، والإعلان عن هذا بصورة جلية. كما حاول أن يقدم صورة فنية مبهمة إلى حد ما، لسيناريوهين متداخلين لحادثتين أساسيتين في حياة شريهان: الحادث المروري (1989) والرمي من الشرفة (2002)، في حين غاب سيناريو مرض السرطان النادر.

وهناك فريق ضخم لا يكترث بهذا كله، تنحصر مقاربته للموضوع في حضور شريهان الطاغي كفتاة رمضان الذهبية، فتاة الفوازير الاستعراضية الشقية، وداخل هذا الفريق هناك تنازعات بين جبهتي نيللي وشريهان- هناك مسلسل يحمل الاسم، ويعكس عمق تأثير حضور الفنانتين-، هذا الفريق هو الأكثر تعبيراً عن هول المفاجاة من الظهور اللافت، هذا الجمهور يحن إلى عصر ولّى ومضى، عصر القناة التلفزيونية الواحدة، أو نهاية عصر السيادة المطلقة لماسبيرو- مبنى الإذاعة والتلفزيون، حين كان المصريون مسحورين بالفوازير، وبالمسلسلات التي تعقبه. كانت الفوازير كأنها من موجبات الصيام. وصانعو إعلان شريهان الأخير، وباستخدامهم جملة موسيقية من متتالية "شهرزاد" لريمسكي كورساكوف التي كانت دائمة الحضور في فوزاير شريهان، في المشهد الافتتاحي للإعلان، يستدعون مشاعر الحنين تلك.

عودة شريهان فيها ملمح "عنقائي"، وهي تتماهي بالكلية مع هذا الملمح، كل كلمة من كلمات الإعلان ترنو نحو حلم نهوض العنقاء من بين الرماد، "الدنيا تكسرنا لكن جروحنا تندمل، نحترق لكننا نُبعث من جديد". وهذه وصفة كاملة أخرى سحرية، تبث بكلمات أخرى من قبل أبواق السلطة لتسوق عقول الناس ومخيلاتهم نحو ضروب شتى من محاولات السيطرة والهيمنة. وصفة كاملة مجربة وأثبتت فشلها، لكنها تقدم مرة ـخرى بفجاجة وسوقية تبتذل كل جمال وكل مقاومة إنسانية حقة، وها هي شريهان تلاعبها بأمل النجاح.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024